الجميّل: في ذكرى اغتيال جبران نستعيد صوتًا واجه الوصاية بلا خوف
مفاوضات على نار حامية: هل تُنضج الاتفاق أم تحرق الجميع؟
انطلاق المفاوضات في جو الاحتقان السياسي المحلي والإقليمي لا يعد بالكثير طالما لم يتحقق النضج الكافي عند أطراف الصراع وذلك بحسب أهم مفاهيم حل النزاعات المعمول بها دولياً والمعروفة بنظرية النضج لوليام زارتمان The Theory of Ripeness. النضج هنا ليس بلوغ سن الرشد، بل “الإستواء” أو “النهنهة” وهي حالة إدراكية مرتبطة بقراءة واقع النزاع وآفاقه غير مرتبطة بمستوى النضج السياسي Political Maturity للمتحاربين.
انقسم اللبنانيون بين مؤيّد ومعارض لمبدأ التفاوض والمفاوض، بعد تعيين السفير السابق سيمون كرم كمفاوض مدني في لجنة مراقبة وقف إطلاق النار الخماسية، مع العلم أنّ الخطوة تفتح كوة في الجدار الاسمنتي السياسي الذي يرتفع باضطراد فوق خطوط الصدع الداخلية والخارجية منذ وقف إطلاق النار.
يشرح زارتمان متى تصبح الأطراف المتنازعة مستعدة للتفاوض بجدية بناء على الظروف البنيوية وليس على النوايا الحسنة أو محاولات الاقناع. يقول إنّ المفاوضات لا تنجح عندما ترغب الأطراف بالسلام، بل عندما تدرك أن كلفة استمرار النزاع تتفوق على فوائده أي عندما تصل الأطراف الى مرحلة المأزق المتبادل الضرر Mutually hurting stalemate.
هل بلغت الأطراف المعنية مأزقاً؟
تتلخص ملامح هذا المأزق في ما يسميه زارتمان بالألم أي الخسارة الكبيرة في الأرواح، والضغوط الاقتصادية والسياسية، والجمود حين لا يستطيع أي من الطرفين تحقيق نصر حاسم والتبادلية أي حين يتكبد كلا الطرفين تكاليف غير مقبولة.
هذا المأزق ليس كافياً بحدّ ذاته ما لم ترَ الأطراف المتنازعة مساراً بديلاً- عادة ما يطرح من قبل وسيط مقبول من الجميع- يحقق الأمن، المحافظة على ماء الوجه سياسياً ويؤمن شكلاً من أشكال المكسب أو الكرامة يمكن أن يسوقه كل طرف عند جمهوره. أما إذا بدا البديل مهيناً أو أسوأ من الوضع الحالي فستختار الأطراف تحمل المأزق خاصة في النزاعات غير المتكافئة بين جيش نظامي وفاعل خارج إطار الدولة كما هي الحال بين إسرائيل و”الحزب”.
لبنان الرسمي ناضج
يدخل لبنان الرسمي المفاوضات السياسية وهو في حالة نضج تام حيث يدرك رئيسا الجمهورية والحكومة والى حد كبير رئيس البرلمان، استحالة الخروج من الوضع الحالي ودرء أخطار التصعيد الا بالمفاوضات، وقد وضعوا محددات واضحة لما سيطرحه المفاوض الرسمي من وقف الاعتداءات الإسرائيلية والانسحاب من الأراضي المحتلة وإعادة الاسرى وصولا الى ترسيم الحدود.
أما “الحزب” فلا يبدو أنّه بلغ مرحلة النضج بعد، أو بالأحرى يبدو أنّ مرحلة النضج التي وصلها الأمين العام السابق حسن نصر الله بعد عملية “البيجرز” وقَبِل على إثرها بوقف إطلاق النار والانسحاب من جنوب الليطاني، قد توقفت عند هذا الحد. لم يبلور “الحزب” ومن بعده إيران، هذه المرحلة، أي رؤية حقيقية لكيفية الخروج من المأزق سوى التمسك باتفاق وقف إطلاق النار ضمن تفسير أحادي يقصر الانسحاب على منطقة جنوب الليطاني ويرهن مستقبل السلاح بوضع استراتيجية امن وطني.
كما لا يبدو أنّ “الحزب” قد أطلق صرخة الألم بعد بفعل تراكم الخسائر الميدانية والبشرية والاقتصادية، لا بل يصر على سردية التعافي وتحيّن فرصة المواجهة. كما أنه ما زال يعتبر أنّ سلاحه مصدر قوة للبنان ودرع حماية لجمهوره رغم كل المؤشرات الموضوعية التي تقول عكس ذلك.
النضج بحسب زارتمان هو تصور لا يتعلق بالواقع بالضرورة، بل بكيفية تفسير القادة للواقع، أي أنه أقرب لحالة نفسية من كونه يعتمد على حسابات موضوعية.
إيران لم تقترب من النضج
إيران لا يبدو أنها قريبة أصلاً من مرحلة النضج في ما يتعلق بالحزب الذي تعتبره خط الدفاع المتقدم عن الأمن القومي الاستراتيجي الإيراني، وهي ليست في وارد التخلي عنه بعد رغم تصريحات وزير الخارجية الإيرانية عباس عراقجي الذي يردد باستمرار لازمة عدم التدخل في شؤون لبنان الداخلية. إلّا أنّ دوائر الحرس الثوري والمرشد الأعلى هي التي تملك الكلمة الفصل في ملف “الحزب”، وهي ترى أنّ بقاءه أهم من الماء والخبز بالنسبة للبنان.
إسرائيل، من جهتها، تأتي الى التفاوض مدججة بكل أنواع أسلحة الإبادة وخرائط المشاريع التوسعية. لا يزال نتنياهو يحلق عالياً في نشوة انتصاره ولم ينزل بعد الى أرض الواقع الذي أوضحه المبعوث الأميركي توم باراك في كلامه أنّّ إسرائيل لا يمكن لها أن تنزع سلاح “الحزب” عسكرياً وربما يجب التفكير في كيفية اقناع الشيعة بعدم حمل السلاح بدل نزعه بالقوة.
تبدو المقاربة الإسرائيلية مناورة ترضي المطلب الأميركي بضرورة الجلوس الى طاولة المفاوضات. يحترف الإسرائيليون المماطلة في التفاوض فيما تعمل آلتهم العسكرية على هندسة استسلام الطرف الآخر. إسرائيل هي الأخرى لم تصل الى مرحلة النضج الكامل خاصة أنّها ما تزال تعتقد أنّ مزيداً من القوة يمكن أن يحقق النصر المطلق.
ليونة باراك
أما الولايات المتحدة، المهندسة لعمل آلية “الميكانيزم” ولكل مراحل التفاوض الموعودة، فتبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى في مرحلة النضج التفاوضي. رغم تصريحاته الصادمة أحياناً يبدي باراك ليونة تدريجية في مقاربته للواقع اللبناني. الرجل يضمر أكثر مما يظهر ويتحدث عن صيغ مبهمة عن مشاريع تعيد صياغة النظام السياسي اللبناني لا تندرج تحت عنوان “تغيير الأنظمة” التي اشتهرت فيها بلاده وفشلت جميعها كما قال.
يأخذ باراك في حساباته المستجدة أهمية الحفاظ على السلم الأهلي وعلى انتاج صيغة تعكس وزن الشيعة في المعادلة الداخلية. لا يبدو أنّ الولايات المتحدة جاهزة الآن لإغضاب حلفائها المسيحيين. حزب “القوات اللبنانية” غير جاهز في مرحلة صعوده في زعامة المسيحيين، لتقديم أي تنازلات للحزب المهزوم من وجهة نظره.
خطة مركّبة
يقول زارتمان إنّ النضج يجب أن يتحقق بشكل متزامن بين جميع الأطراف قبل أن يصبح السلام الشامل ممكناً، وأنّ المفاوضات التي تحصل قبل هذه المرحلة غالباً ما تفشل. يقول باراك إنّ الحرب لم تنته بعد فربما نكون في الفصل الخامس من فصولها العشرة. عليه، تبدو الولايات المتحدة في طور “تصنيع النضج” أو خلق الظروف المهيئة للوصول إليه ضمن خطة مركبة ترتكز الى:
– إطلاق العصا الغليظة الإسرائيلية بحدود مضبوطة أميركياً مقابل حديث عن محدودية نجاح المسار العسكري منفرداً وضرورة التفكير في بدائل أخرى، وهو كلام موجه لإسرائيل.
– ضغط نفسي كبير على المجتمع اللبناني من خلال الترويج لسيناريوهات تعيد إحياء التروما الوجودية ليس فقط عند الشيعة، بل عند المسيحيين أيضاً. التلويح بنسف الجغرافيا اللبنانية برمتها، إن عبر مشروع إسرائيل الكبرى أو مشروع ادماج لبنان بسوريا، موجّه ليس فقط للحزب بل “للقوات اللبنانية” أيضاً والتي ربما تريد منها الولايات المتحدة إعادة التفكير في وزن المسيحيين في النظام السياسي مقابل خسارة الكيان المستقل.
– خلطة معقدة من العقوبات الاقتصادية التدريجية الخانقة على “الحزب” وتضييق على مسارات التهريب والتمويل.
– وضع الدولة برئاساتها وأجهزتها المدنية والعسكرية تحت الضغط الأقصى سياسياً ومالياً لدفعها للالتزام بالخطة بمراحلها المزمنة وضبط أدائها الداخلي.
القرار عند المرشد
يبقى المسعى الأميركي لإنضاج مواقف كل من إسرائيل ولبنان الرسمي و”الحزب” قاصراً عن مقاربة بيت القصيد في طهران. من الواضح أنّ حرب الاثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل قد أضعفت إيران بشكل كبير، لكنها لم تنهها عسكرياً ولم تؤد الى تغيير عميق في عقيدة الأمن القومي الاستراتيجي الإيراني التي يحتل “الحزب” فيها موقع الدفاع المتقدم. وبالتالي يمكن للخارجية الإيرانية أن تردد يومياً أنّها لا تتدخل في الشأن اللبناني، وهذا قد يكون صحيحاً، فملف “الحزب” ليس في الخارجية، بل على مكتب المرشد الأعلى نفسه ومن بعده الحرس الثوري. طالما لم يصدر الأمر من هذا المكتب لن يكون بمقدور قيادة “الحزب” الهشة والمتخبطة اتخاذ أي قرار استراتيجي بحجم القاء السلاح طوعاً وعلناً.
لذا ربما يجدر التفكير في مقاربة أكثر واقعية لإنضاج اللاعب الإيراني عبر شركاء موثوقين كالمملكة العربية السعودية والإمارات وتركيا وباكستان التي يمكنها أن تقدم حلولاً ضمن منظومة العمل الإسلامي لا يمكن للولايات المتحدة أن تنجزها بالضغط الأقصى.
بعد ذلك يمكن إطلاق حوار داخلي برعاية دولية بهدف إعادة ترسيخ العقد الاجتماعي بين اللبنانيين. إن كانت الولايات المتحدة تعتقد أنّ لبنان يحتاج الى إعادة صياغة لتوازناته الطائفية في نظامه السياسي عليها أن تتذكر أنّ تغيير هذه التوازنات لم يتحقق يوماً بالطرق السلمية في لبنان وأنّ كلفة هذا المشروع على السلم الأهلي قد تكون باهظة.
لذا فإنّ رمي الأفكار في مقابلات صحفية من هنا وندوات من هناك قد يحدث أثراً عكسياً إن لم يكن مدعوماً بتصور واضح ومرض لجميع الأطراف وإرادة سياسية صلبة لتحقيقه. فقط عندما يتحقق فكّ الارتباط الخارجي ويًعاد ترسيخ العقد الاجتماعي يمكن للبنانيين التفكير جدياً في مسار حقيقي للسلام مع إسرائيل إن كان هناك شريك يمكن التحاور معه على الضفة الأخرى.
ملاك جعفر عبّاس - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|