الدولة تواجه تحدّي "الهيبة": نوح زعيتر إسكوبار أم روبن هود؟
أوقف الجيشُ اللّبنانيّ نوحَ زعيتر بعدما سلّم نفسَه، فصار في قبضة الدّولة اللّبنانيّة، بعد سنواتٍ من الكرّ والفَرّ الّذي بدا مقصودًا في معظم الأحيان.
إنّه نوحٌ الشهيرُ الّذي نعرفه، سواء كنّا لُبنانيّين أم سوريّين.
أسطورةٌ شعبيّةٌ أم تاجرُ مخدّراتٍ خطير؟
لنوح زعيتر صورتان دأبت وسائلُ الإعلام على استعادتهما.
الأولى تعرضه بوصفه ابنَ منطقةٍ مُهمَّشةٍ لم تلتفتْ إليها الدّولة منذ تأسيسها، ما "اضطرَّه" إلى سلوك "منهج التّسيُّب" و"التورّط قسرًا" في المشكلات.
أمّا الثّانية، فترسمه التقاريرُ الأمنيّةٌ والإعلاميّةٌ على أنّه تاجرُ مخدّراتٍ خطير جدًّا، أسهم في خراب الشّباب اللّبنانيّ ونشر آفة المخدّرات في صفوفهم، وتربطه بعلاقاتٍ مُعلَنةٍ مع ماهر الأسد وأفرادٍ من دائرته، ظهرت في صور "سيلفي" متداوَلة. كما تتّهم شبكاتٍ على صلةٍ به بإرسال مقاتلين إلى سوريا، تحت غطاءٍ وفّرته قوى أمرٍ واقعٍ في لبنان، من "حزب الله" إلى مكوّناتٍ في "المنظومة" الحاكمة الّتي تُشبَّه بـ"العصابة".
ومهما تعدّدت السّيرُ والأقاويلُ عنه، وحتّى الألقاب، من "إسكوبار" إلى "أسطورة" خارجةٍ عن القانون، يبقى أنّ الرّجل الّذي صُنعت حوله هالةٌ أسطوريّةٌ في المخيّلة الشّعبيّة، وتصدَّر الشاشات، فيما تراكمت على اسمه عشراتُ مذكّراتِ التوقيف، يتحوّل اليوم من رمزٍ للفلتان إلى اختبارٍ حقيقيٍّ لجدّيّة قيام دولة القانون. وهذا وحده يطرح أسئلةً مشروعةً من قبيل، هل بدأت دولةُ القانون تتحقّق فعلًا، أم أنّ المنظومة، "بحركاتها المعتادة"، غرّرت بأحد أعضائها ورفعت الغطاءَ عنه؟
كلّها أسئلةٌ مطروحةٌ في بلدٍ مفتوحٍ على كلّ الفرضيّات. لكنّ الأهمّ أنّ قصّة الرّجل وصلت إلى خواتيمَ تُعَدّ مُرضيةً، أقلّه لأبناء البقاع المنكوب، ولسوريا الّتي عاثت فيها شبكاتُ التهريب فسادًا، ولدولة لبنان وهيبتها المهدورة منذ عقود.
من هو نوح زعيتر؟
في غمرة المستجدّات الأمنيّة والسّياسيّة، وفي خضمّ الجبهة الجنوبيّة المتّقدة، استأثر قرارُ المحكمة العسكريّة قبل فترةٍ بالحكم على اثنين من كبار تجّار المخدّرات في لبنان، نوحِ علي داوود زعيتر، وعلي منذر زعيتر المعروف بـ"أبو سلّة"، بالإعدام، باهتمام الشّارعين اللّبنانيّ والسّوريّ. فالحكم، ولو كان غيابيًّا، عُدَّ يومها شكلًا من أشكال الانتصار للعدالة لدى شعبين عاشا مآلاتِ التسيُّبِ والانفلاتِ الّذي تغطّيه قوى الأمرِ الواقع، من ميليشياتٍ وجيشٍ "نظاميّ" سوريّ، ويُقابله تاريخٌ طويلٌ من غياب المساءلة الجديّة والعدالة، ما شجّع على تطبيعٍ مُلتبِسٍ مع الجريمة.
نوح زعيتر، الملقّب بـ"روبن هود البقاع"، نسبةً إلى ما يُروى عن أعمالٍ "خيريّة" ومساعداتٍ قدّمها لمقرّبين منه من الفقراء والمغلوب على أمرهم، بنى جزءًا من صورتِه على اتهام الدّولة اللّبنانيّة بالتسبّب في خروجه عن القانون، بوصفه امتدادًا لسرديّة "مظلوميّة" تاريخيّةٍ لسكّان البقاع الشماليّ. في المقابل، تضعه سجلاّتُ البحثِ والتحرّي في خانةِ واحدٍ من أبرز المطلوبين بالاتجار بالمخدّرات منذ تسعينيّات القرن الماضي، وقد صدرت بحقّه عشراتُ مذكّراتِ التوقيف وأحكامٌ غيابيّةٌ متعدّدة، إلى أن أوقفه الجيش اليوم، بعدما كان متواريًا عن الأنظار رغم إطلالاته الإعلاميّة المتكرّرة.
في العام 2021 أصدرت المحكمةُ العسكريّةُ الدّائمة في لبنان سلسلةَ أحكامٍ بحقّ نوح زعيتر وآخرين، بجرم الترويج للمخدّرات والاتجار بها. وقد أنزلت المحكمةُ يومها، برئاسة العميد الرّكن خليل جابر، عقوبةَ الإعدام غيابيًّا بحقّ نوح زعيتر وعلي زعيتر "أبو سلّة"، وحكمت على مهدي زعيتر، نجلِ نوح، بالسّجن أربعَ سنواتٍ، بجرائمِ تشكيلِ عصابةٍ مسلّحةٍ بقيادة "أبو سلّة"، وإطلاقِ النار على عناصر من الجيش اللّبنانيّ بقصدِ قتلِهم، ما أدّى إلى مقتلِ عريفٍ من آل شمص وجرحِ آخرين، خلال عمليّةِ دهمٍ في حيّ الشروانة، في الطّرف الشماليّ من مدينة بعلبك، مطلعَ حزيران 2022، لملاحقة مطلوبين بتجارة المخدّرات كان "أبو سلّة" أبرزَهم.
ونال علي زعيتر، نجلُ نوح، حكمًا بالبراءة للمرّة الثّانية، لعدم كفاية الدليل ووجود الشكّ. ويُعدّ هذا الحكمُ بالإعدام الأوّلَ في لائحة الأحكام الصادرة بحقّ نوح "أبو نوح" و"أبو سلّة"، بعد سلسلةِ أحكامٍ سابقةٍ قضت بإنزال عقوبةِ الأشغال الشّاقّة المؤبّدة بهما بجرم تجارة المخدّرات.
عمليّةُ الدّهم في حزيران 2022، الّتي شكّلت فاتحةَ الخطةِ الأمنيّة الّتي أطلقها الجيشُ، بمؤازرة الأجهزة الأمنيّة الأخرى في البقاعَيْن الأوسط والشماليّ، جرّت وراءها سلسلةً دوريّةً ومكثّفةً من العمليّات، بوصفها جزءًا من "الحلول الجذريّة" للوضع الأمنيّ المأزوم. غير أنّ هذه الخطة لم تُستكمَلْ كما أُريد لها، بعد تدخّلاتٍ عشائريّةٍ وحزبيّةٍ وسياسيّةٍ أوقفت دهمَ منازلِ مطلوبين على امتداد البلدات البقاعيّة.
المفارقة أنّ عمليّةَ الدّهم ذاتها سبَقَها اعتصامٌ يطالِب بعفوٍ عامٍّ عن بعض الملاحقين قضائيًّا، حيث لوحِظ أنّ نوح زعيتر، "أسطورةَ زعماء العصابات"، كان بين المشاركين في اعتصامٍ أمام سراي بعلبك الحكوميّ، الّذي طُوِّق بالقوى الأمنيّة، من دون أن يجرؤ أحدٌ على الاقتراب منه، رغم تكدّس عشراتِ مذكّراتِ التوقيف بحقّه. اليوم يعود السؤالُ نفسُه، ولكنْ بصيغةٍ مختلفة.
يومها، وبينما كان الجيش قد خسر العريفَ زينَ العابدين شمص، وحاز في المقابل على غطاءٍ شعبيٍّ وعشائريٍّ واسع، تدخّلت وفودٌ عشائريّةٌ قريبةٌ من "أبو سلّة" لدى الوكيل الشّرعيّ للخميني في لبنان، وعضوِ شورى "حزب الله" محمد يزبك، في مكتبِه في بعلبك. خرج المجتمعون بتصريحاتٍ تمهل الجيشَ ساعةً لوقف ملاحقة المطلوبين، "وإلّا..."، في حين رفضتْ عشيرةُ زعيتر تسليم المطلوبين، واعتبرت الجيشَ اللّبنانيّ "جيشًا غريبًا". أمّا يزبك فقال يومها، "نشكر آلَ زعيتر الّذين ضبطوا أنفسَهم وضبطوا سلاحَهم، وإذا بعد ساعةٍ أو ساعتين لم تُحلّ الأمور، فنحن متضامنون معكم وسنقف إلى جانبكم".
عقوباتٌ أميركيّةٌ وملفّ الكبتاغون
منذ نحو عامٍ ونصف العام، وتحديدًا في 28 آذار 2023، أعلنت وزارةُ الخزانةِ الأميركيّة لائحةً من العقوبات تضمّنت اسمَ نوح زعيتر، على خلفيّة دعمه النّظام السوريّ، وضُلوعه في تجارة حبوب الكبتاغون، فضلًا عن صلتِه المزعومة بـ"حزب الله". وأشارت الوزارةُ في بيانها إلى أنّ هذه العقوبات تُفرَض بموجب قانون "قيصر" لحماية المدنيّين السّوريّين، مؤكّدةً أنّ القائمة تسلّط الضّوء على "الدّور المهمّ لمهرّبي المخدّرات اللّبنانيّين، الّذين تربطهم علاقاتٌ وطيدةٌ بحزب الله، في تسهيل تصدير الكبتاغون"، كما تُبرز "هيمنة عائلة الأسد على الاتّجار غيرِ المشروع بالكبتاغون لتمويل النّظام القمعيّ".
جحيم الحياة اليوميّة في البقاع الشماليّ
في البقاع واقعٌ مُغايرٌ لسائر المناطق اللّبنانيّة. البؤرُ الخارجةُ عن سلطة الدّولة لا تُعدّ ولا تُحصى، من عصابات التهريب، إلى بعض العشائر، وميليشياتِ الخطف والسّرقة، وتُجّار المخدّرات، وغيرِهم. هذا المشهدُ يحوّل المنطقةَ إلى قنبلةٍ موقوتةٍ تنتظر مسارَ الأمن المنتظر.
فهل تقدِر الدّولة فعلًا على فرض أمنِها على هذه المناطق، أم أنّ "المسرحيّة البشعة" ذاتَها ستتكرّر، بحيث تكتفي الدّولةُ بإكمال "المسرحيّة الأمنيّة" ببعض التوقيفات الّتي لا تنزع فتيلَ الانفجار، وربّما لا تكفي حتّى لتأجيله؟
ليس وحدَه حكمُ العشائر والسّلاحُ المتفلّت ما جعل سمعةَ البقاع الشماليّ ملتصقةً بأخبار الجريمة دوريًّا، وليس وحدَه البؤسُ العامّ والاستسلامُ لحتميّة واقعٍ هزليٍّ، ما جعل حياةَ البقاعيّ رخيصةً، في الإعلام كما في نظر دولته، وصولًا إلى جزءٍ من مجتمعه.
وربّما تكون أكثرُ النّظريّات منطقيّةً، على الصعيديْن السوسيولوجيّ والسّياسيّ، لتفسير هذا الشّرْخ بين واقعٍ معاشٍ مُزدحِمٍ بالقتلى وضحايا الجرائم المتفرّقة، وبين التمثيلات الإعلاميّة والرّسميّة والأمنيّة المحدودة والمنحصرة في إطار المعادِ والمألوف عن هذه المنطقة، هي أنّ حياةَ البقاعيّ باتت جحيمًا يوميًّا.
من هنا، لا يُقاس معنى توقيفِ نوح زعيتر فقط بكونه إلقاءَ القبض على أحد أخطر المطلوبين، بل بكونه ميزانَ حرارةٍ لاختبار ما إذا كانت الدّولة في طور استعادة هيبتها حقًّا، أم أنّ شيئًا لم يتغيّر، وأنّ الأسطورة تبدّلت وجوهُها من دون أن يسقط منطقُها.
بتول يزبك -المدن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|