نازحو الجنوب السوريون بين العدوان والعودة... نزوح فوق نزوح... وقلق أمني يتجدّد
الجنوب اللبناني، الذي لا يزال خط الدفاع الأول في وجه العدوان الصهيوني، يتحوّل اليوم إلى مرآة تعكس أزمات متداخلة: العدوان المستمر، الانهيار الاقتصادي، وتداعيات النزوح السوري.
الملف لم يعد إنسانياً فحسب، بل صار أمنياً وسياسياً بامتياز، يختبر قدرة الدولة اللبنانية على ضبط التوازن بين التعاطف الإنساني والضرورات الوطنية، وبين مقتضيات السيادة وأعباء الواقع.
في المقابل، فإنّ التحوّلات في دمشق تفتح نافذة واقعية لإعادة تنظيم العلاقة اللبنانية ـ السورية بعيداً عن الانفعال، على قاعدة التنسيق لا التصادم، والعودة المنظمة لا الفوضى. فاستمرار الفوضى في هذا الملف، يعني مزيداً من الاستنزاف للجنوب، الذي يدفع ثمن الحرب مرتين: مرة في مواجهة العدو، ومرة في تحمّل أعباء اللجوء والنزوح.
من هنا، يبدو أن المعادلة الجنوبية الجديدة لن تستقر، إلا إذا اجتمع الأمن والإنماء والعدالة في مقاربة واحدة. فالنزوح الذي بدأ إنسانياً، لا يمكن أن ينتهي أمنياً أو سياسياً، بل يحتاج إلى قرار شجاع يوازن بين حق العودة، وحق لبنان في حماية أرضه ومجتمعه.
اعباء مستمرّة
ومع تجدد الحديث عن عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، يعود الجنوب اللبناني إلى الواجهة من زاوية مغايرة. فالمنطقة التي استقبلت منذ عام 2012 آلاف العائلات السورية الهاربة من الحرب، تعيش اليوم تحت ضغط مزدوج: استمرار العدوان الصهيوني على القرى الأمامية، وتبدّل المشهد الأمني والسياسي في سوريا ولبنان على السواء.
نزوحان في عقدٍ واحد
وبحسب بيانات وزارة الداخلية اللبنانية والأمن العام، بلغ عدد السوريين المسجلين في محافظتي الجنوب والنبطية قبل عام 2023 حوالى 140 ألف نازح، توزّعوا بين بلدات صور وبنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا والنبطية.
إلا أن العدوان الصهيوني المستمر منذ خريف 2023 وحتى اليوم، وما رافقه من قصف يومي وتهجير للقرى الحدودية، أدّى إلى تراجع عدد المقيمين السوريين في القرى الأمامية بنسبة تقارب 40%، وفق مصادر بلدية في ميس الجبل وحولا وبليدا ومارون الراس. الكثير منهم نزحوا مجدداً نحو صيدا أو النبطية أو حتى البقاع، فيما قرر بعضهم العودة إلى بلداتهم الأصلية في ريف دمشق ودرعا وحمص، بعد أكثر من عشر سنوات في لبنان.
ويقول احد اعضاء بلدية جنوبية حدودية لـ"الديار": "كنا نستضيف نحو 600 عائلة سورية قبل العدوان، اليوم لا يتجاوز العدد 250. جزء منهم انتقل إلى مناطق أكثر أماناً شمالي الجنوب، والبعض عاد إلى سوريا عبر المصنع أو العريضة. الوضع الأمني والاقتصادي لم يعد يحتمل وجودهم هنا، ولا هم قادرون على تحمل كلفة النزوح الثاني".
قرى حدودية شبه خالية
وفي ميس الجبل وبليدا ومارون الراس ويارون، التي كانت تشهد تجمعات نازحين يعملون في الزراعة والبناء، تقلّص الوجود السوري بشكل حاد.
أحد موظفي وزارة الشؤون الاجتماعية في المنطقة، يؤكد لـ"الديار" أن "عدد العائلات السورية المسجلة كمستفيدة من المساعدات في القضاء، انخفض من نحو 1800 إلى أقل من 900 خلال الأشهر الماضية".
أما في بلدات صور، وخاصة العباسية وبرج الشمالي والبرج الأحمر، فلا يزال الوجود السوري ثابتاً نسبياً، لأنها توفر فرص عمل موسمية في الزراعة والورش.
الأطفال لا ينامون
داخل بلدة رميش الحدودية، يروي نازح سوري من إدلب يدعى أحمد قصته: "هربنا من الحرب في سوريا، لنجد أنفسنا تحت القصف هنا. كنا نعمل في حقول الزيتون والتبغ، لكننا توقفنا منذ شهرين بعد سقوط القذائف في أطراف البلدة. الأطفال لا ينامون، وكلما سمعوا الطيران يصرخون".
أمّا في بنت جبيل، فالوضع ليس أفضل. فبحسب أحد المخاتير "البيوت المؤجرة للنازحين أُقفلت أو أُخليت خوفاً من الانفجارات، وبعض أصحابها اللبنانيين عادوا ليسكنوها، بعد تهدّم منازلهم في القرى القريبة من الحدود".
هذا الواقع خلق ضغطاً اجتماعياً مزدوجاً على المجتمعات المضيفة والنازحين على السواء، في ظل غياب شبه تام لبرامج الدعم الدولية، بعد تقليص مساعدات الأمم المتحدة منذ مطلع العام.
الأمن العام: ضبط وتنظيم لا ترحيل
رسمياً، يوضح مصدر في المديرية العامة للأمن العام لـ"الديار" أن "العودة الطوعية هي الخيار الأساسي حالياً، ولا قرار بترحيل جماعي. لكن هناك تشدد في تنظيم الإقامة والوجود، خصوصاً في المناطق الحساسة أمنياً كالجنوب والبقاع الغربي".
ويشير إلى أن المديرية "تتابع تنسيقها مع البلديات والأجهزة الأمنية لضمان عدم استغلال أي ثغرة أمنية في التجمعات السورية، ولا سيما في القرى القريبة من الحدود".
بين الأمن والسياسة
ومع تغير المعادلات في سوريا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتعزيز سلطة الدولة في مناطق واسعة، باتت الظروف السياسية أكثر ملاءمة لعودة قسم من النازحين، خصوصاً من ينتمون إلى محافظات آمنة نسبياً.
ويؤكد مصدر سياسي جنوبي لـ"الديار" أن "الحديث عن عودة جديدة ينسجم مع تفاهم لبناني ـ سوري قيد البحث، يتيح عودة دفعات منظمة برعاية الأمن العام والجيش، بعيداً عن الضجيج السياسي".
العدوان يعمّق المأساة
وبحسب تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، تسببت الغارات المعادية منذ تشرين الأول 2023 بنزوح أكثر من 90 ألف شخص داخل الجنوب اللبناني، بينهم آلاف السوريين الذين وجدوا أنفسهم للمرة الثانية في مواجهة التهجير.
ويشير تقرير "المجلس النرويجي للاجئين" إلى أن "النازحين السوريين في الجنوب يواجهون معاناة مضاعفة بسبب انعدام المأوى، وتوقف المدارس، وانقطاع سبل العيش".
أما المفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR) فتؤكد أن "العدوان أجبر الكثير من العائلات السورية على مغادرة مناطقها للمرة الثانية، وبعضها عاد فعلاً إلى سوريا بشكل غير منظم".
عودة صعبة أم إقامة مستحيلة؟
وبين تصاعد الخطر الأمني واستمرار الأزمة الاقتصادية وفتور الدعم الدولي، يجد النازحون السوريون في الجنوب أنفسهم أمام خيارات محدودة: العودة إلى سوريا سريعاً، أو البقاء في مناطق لم تعد تحتمل أعباء إضافية.
وبينهما، يبقى الجنوب اللبناني مسرحاً لتداخل المأساة الإنسانية مع الحسابات الأمنية والسياسية، في انتظار تسوية شاملة، تضع حداً لنزوح استمر أكثر من عقد، وتحوّل من نزوح إنساني إلى معضلة وطنية متشابكة.
علي ضاحي -الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|