بين نار الجنوب وسيف التفاوض.. هل يخرج "حزب الله" من المعادلة اللبنانية؟
فيما تتصاعد الغارات الإسرائيلية على قرى جنوب لبنان، وتتزايد التحذيرات الميدانية، يُعاد طرح مسألة القرار السيادي اللبناني من جديد، لكن هذه المرة وسط خطاب أكثر صراحة من ميليشيا حزب الله في رفضه أي مسار تفاوضي مع إسرائيل، مقابل اندفاعة سياسية من رئاسة الجمهورية نحو مقاربة تعتبر التفاوض ضرورة وطنية.
وتسير الدولة اللبنانية هذه الأيام على خيط رفيع يفصل بين نار التصعيد جنوباً وضغوطات الخارج شرقاً وغرباً، بينما يتكشّف تدريجياً أنّ ما كان يوصف لعقود بـ"معادلة توازن الردع" لم يعد سوى واجهة لواقع جديد مفاده بأن حزب الله يريد الاستمرار بتحدّيد مسارات الأمن والسياسة، وفرض معادلاته بصيغة عسكرية، غير آبهٍ بعواقب الانفجار القادم.
ولعل الاشتباك القائم اليوم في لبنان يتجاوز المواقع الحدودية وقواعد الاشتباك التقليدية؛ إنه اشتباك على طبيعة الدولة اللبنانية نفسها، بين من يريدها دولة ذات قرار سيادي مستقل، ومن يصرّ على بقاء قرار الحرب والسلم خارج مؤسساتها.
أزمة القرار الرسمي
دبلوماسي غربي معنيّ بمتابعة ملف لبنان داخل بعثة أوروبية عاملة في بيروت، قال في حديث خاص، لـ"إرم نيوز"، إنّ ما يجري في جنوب لبنان تعتبره الدول الغربية كمؤشّر استراتيجي على دخول الأزمة اللبنانية مرحلة انكشاف كامل، بعدما بدا أن حزب الله يرفض علناً وبشكل مباشر الانخراط في أي صيغة تفاوضية، ويستمر في التشبث بسلاحه كمصدر شرعية موازية لمؤسسات الدولة.
وأضاف المصدر أن "التصعيد الإسرائيلي، وإن بدا عسكرياً في الشكل، فإنه سياسي في المضمون. تل أبيب تبعث برسائل مركّبة إلى الحزب بأن قواعد اللعبة القديمة لم تعد قائمة، وإلى الدولة اللبنانية بأن استمرار الغموض في موقفها من حصرية السلاح سيقابل بالمزيد من الضغط".
وأوضح أن بعض العواصم الأوروبية ترى في بيان حزب الله الأخير "تطوراً مقلقاً"؛ لأنه – بحسب المصدر – "يشير إلى رغبة الحزب في إعادة إنتاج منطق الدولة ضمن منطق السلاح الموازي، في وقت تُجمع فيه معظم الأطراف اللبنانية الرسمية على خيار التفاوض كأداة ناعمة لتفادي الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة".
وتابع بالقول، إن "هناك إحساساً أوروبياً متزايداً بأن بيروت قد فقدت القدرة على الإمساك بزمام المبادرة. التمايز الواضح بين موقف الرئاسة اللبنانية، الساعي لتفعيل آلية تفاوض غير مباشر، وموقف الحزب الذي يرفض حتى النقاش، يكشف أن مؤسسات الدولة لم تعد فاعلاً مركزياً بل رهينة توازنات مفروضة من خارجها".
توازن مهدد بالانهيار
وأشار الدبلوماسي إلى أن "الانطباع السائد في دوائر القرار الأوروبية هو أن حزب الله، مدفوعاً بحسابات إيرانية، يحاول توظيف التوتر لضمان استمرار شرعيته الأمنية داخل لبنان، حتى لو أدى ذلك إلى تقويض فرص الاستقرار الداخلي وإضعاف فرص الدعم الدولي".
كما قال إن المجتمع الدولي بات يرى في ملف سلاح حزب الله "عنصراً معطِّلاً لأي نهوض سياسي أو اقتصادي"، مؤكداً أن واشنطن والاتحاد الأوروبي أوضحا في محادثات غير رسمية أن أي دعم اقتصادي للبنان سيكون مشروطاً بخطة جدية لحصر السلاح بيد الدولة.
المصدر ذاته أشار إلى أن الوقت الراهن يُعدّ "فرصة نادرة" لإعادة ترتيب قواعد الاشتباك في لبنان، خاصة مع الانكشاف الميداني للحزب، وتحذيرات إسرائيل من إعادة ترميم البنية التحتية العسكرية للحزب قرب الحدود.
بحسب هذا التقدير، فإن تل أبيب تفضّل الوصول إلى تسوية تكبح النفوذ الإيراني في لبنان من دون الدخول في حرب شاملة، لكنها في المقابل لا تمانع استمرار "الضغط المتدرّج" على الأرض لتحقيق مكاسب سياسية تدريجية، خصوصاً في ما يتعلق بالانسحاب من جنوب الليطاني مقابل ترتيبات أمنية على مراحل.
وكشف أن "المباحثات غير العلنية الجارية حالياً بين بعض الجهات الدولية وبيروت تركز على إعادة هيكلة المعادلة الأمنية جنوباً، بحيث لا يُترك القرار في يد طرف مسلّح غير تابع للدولة، لأن أي تفاوض مستقبلي مع إسرائيل – سواء مباشر أو غير مباشر – لن يُكتب له النجاح إذا لم يكن صادراً عن سلطة موحّدة تمتلك السلاح والقرار".
وختم بالقول إن "المعالجة الدبلوماسية الجارية ليست محصورة في الغارات، إنما تتعدّاها إلى محاولة منع تفكك بنية الدولة اللبنانية من الداخل. هناك خشية حقيقية من أن يفقد لبنان توازنه بالكامل إذا استمر الطرف المسلّح في فرض شروطه على المؤسسات، لأن ذلك يعني أننا أمام نموذج دولة معلّقة لا قرار لها، ومفتوحة على جبهات لا يمكن التنبؤ بمآلاتها".
حزب الله يُعطّل الدولة
من ناحيته قال مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية، معني بملف العلاقات مع لبنان والشرق الأوسط، في حديث خاص لـ"إرم نيوز" إنّ الموقف الأميركي من التطورات الأخيرة في لبنان يتأسس على قناعة واضحة بأنّ ما يجري في الجنوب لا يمكن فصله عن إخفاق الدولة اللبنانية في حسم موقعها من سلاح حزب الله، ولا عن سياسة الإنكار التي تتعامل بها بعض القوى اللبنانية وفي مقدمتها حزب الله، مع التحولات الإقليمية العميقة الجارية منذ عام.
وأوضح المسؤول الأمريكي أنّ "بيان حزب الله الأخير الذي يرفض التفاوض السياسي مع إسرائيل، ويتحدّى فيه قرار الدولة بشأن حصرية السلاح، هو تعبير صريح عن منطق الدولة داخل الدولة، وهو ما تعتبره واشنطن المعضلة البنيوية الأولى في لبنان، والتي حالت لعقود دون قيام مؤسسات حقيقية قابلة للمساءلة أو التعاون الدولي الكامل".
وأشار المصدر إلى أنّ "الولايات المتحدة لا ترى في التصعيد الإسرائيلي مجرّد رد عسكري موضعي، بل تقرأه كأداة ضغط منسّقة لإعادة ضبط المعادلة الأمنية على الحدود الجنوبية، عبر وضع المسؤولية الكاملة على عاتق الطرف الذي يخرق القرار 1701، ويفرض نفسه مرجعية فوق الدولة".
وأضاف: "نحن نراقب عن كثب السلوك التصاعدي للحزب، ومحاولاته استباق أي مسار تفاوضي لبناني–إسرائيلي عبر فرض أمر واقع مسلّح. ما يقلق واشنطن أن هذا الأسلوب بات يستهدف ليس فقط خصوم الحزب، بل أيضاً الدولة التي ينتمي إليها نظرياً".
تحذير من العزلة
وكشف المسؤول الأمريكي أن "الإدارة الأميركية أوصلت رسائل واضحة إلى كل من رئاسة الجمهورية والحكومة اللبنانية مفادها أنّ الوقت لم يعد يسمح بالمراوحة السياسية. المجتمع الدولي ينتظر من بيروت موقفاً حاسماً تجاه مسألة احتكار السلاح، كمدخل إلزامي لأي مساعدات أمنية أو دعم اقتصادي فعّال في المرحلة المقبلة".
وبحسب المصدر، فإن واشنطن تعتبر أنّ استمرار حزب الله في تعطيل قرار الدولة "لن يؤدي فقط إلى مزيد من العزلة اللبنانية فقط، إذ قد يسرّع في فرض أدوات ضغط جديدة، تشمل تعديل قواعد الدعم للجيش، أو إعادة النظر في طبيعة التنسيق المالي مع المؤسسات اللبنانية الرسمية".
ولفت إلى أن المجتمع الدولي، وعلى رأسه واشنطن، بات يعتبر ملف سلاح حزب الله "قضية لبنانية–إقليمية مشتركة"، وأن الوقت قد حان لربط أي مساعدة سياسية أو اقتصادية جدّية للبنان بـ"مقاربة واقعية للسلاح الخارج عن الدولة".
وكشف المصدر الأمريكي أن هناك نقاشات داخل الإدارة الأميركية حول فرض خارطة طريق تتضمّن: "إلزام لبنان بخطة واقعية لحصر السلاح تحت مظلّة الدولة، نقل القرار الدفاعي إلى قيادة الجيش حصراً، وتحديد مهلة انتقالية لإنهاء ظاهرة "السلاح الاستراتيجي الموازي".
معادلة مكشوفة وخطيرة
مصدر رسمي لبناني مقرّب من دوائر الرئاسة أكّد، لـ"إرم نيوز"، أنّ الرئيس جوزاف عون كان قد طرح ملف التفاوض كـ"خيار اضطراري وليس كخيار أيديولوجي". وأضاف أن الرئاسة تدرك تماماً أن الوقت لا يسمح بمغامرات، وأن ما يجري جنوباً لا يمكن احتواؤه إلا بتسوية جزئية تُخرج لبنان من خط التماس.
إلا أن المصدر أشار بوضوح إلى أن رد حزب الله لم يكن فقط سلبياً، بل كان أيضاً تهديدياً. "البيان أغلق الأفق. لا يوجد أي استعداد حقيقي لدى الحزب للانخراط في مسار تفاوضي يضع سلاحه ضمن نقاش وطني أو استراتيجي، حتى لو كان ذلك في إطار حماية البلد"، قال المصدر.
وأكد إنّ ما تشهده البلاد منذ أيام، وتحديداً بعد التصعيد الإسرائيلي الأخير، يكشف بوضوح مدى خطورة الاستمرار في تعليق مستقبل لبنان على حسابات خارجية لا تراعي مصالح الدولة ولا تحترم مؤسساتها، في إشارة مباشرة إلى سلوك حزب الله الذي يرفض حتى الآن كل أشكال التفاوض، ويمضي بتحدٍّ صريح لأي خطة وطنية لحصر السلاح.
واعتبر أن "المعادلة اليوم باتت مكشوفة. كل أطراف الدولة، من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الحكومة، توافق على ضرورة سلوك مسار تفاوضي منضبط مع إسرائيل، ليس من باب التطبيع، بل لحماية لبنان من الانفجار. الطرف الوحيد الذي يرفض هو حزب الله، وكأنه قرر وضع نفسه في مواجهة مع الدولة، ليس فقط مع الجانب الإسرائيلي".
جبهتان بلا دولة
وأضاف المصدر أن "البيان الأخير للحزب لا يمكن قراءته إلا كمحاولة لفرض إرادته على الرئاسات الثلاث، وتعطيل أي مخرج سياسي أو دبلوماسي".
وأشار المصدر إلى أن "الجنوب اليوم يدفع الثمن، وأهل الجنوب يُتركون تحت نيران مفتوحة؛ لأن هناك من قرر أن يربط أمن لبنان برهانات محور إقليمي لا يعنيه الاستقرار الداخلي. هذا النهج ليس جديداً، لكنه اليوم أصبح أكثر خطراً لأن إسرائيل تستثمره بالكامل، وتُحمّل الدولة مسؤولية ما لا تملكه من قرار أو قدرة".
وكشف أن "عدداً من الاتصالات التي أجراها مسؤولون لبنانيون مع أطراف دولية وعربية، في الساعات الأخيرة، حملت رسائل واضحة صمت الدولة أو تساهلها لن يُفهم على أنه موقف محايد. المطلوب موقف رسمي واضح، يعلن أن القرار الأمني لا يمكن أن يبقى محتجزاً في يد طرف مسلّح، لا يخضع لا لمساءلة ولا لمشروعية سياسية أو دستورية".
وختم بالقول: "لبنان لا يمكن أن يعيش على وقع جبهتين: جبهة يقرّرها الحزب وفق توقيتات إيرانية، وجبهة دبلوماسية تحاول الدولة عبرها إنقاذ ما يمكن إنقاذه. المطلوب الآن أكثر من بيانات نوايا، فالمطلوب تصحيح المسار، ولو بخطوات مؤسسية تدريجية؛ لأن استمرار هذا الانفصام لن يؤدي إلا إلى مزيد من العزلة، وربما إلى انفجار لن يكون الحزب وحده من يدفع ثمنه، بل الدولة كلها".
التهديد بلا تفويض
أندرو كارلسون، المحلل السياسي المختص في ديناميات السلطة والهويات السياسية في الشرق الأوسط، قال في تصريح، لـ"إرم نيوز"، إن ما يجري في لبنان اليوم "لحظة كاشفة لانقسام حقيقي داخل البلد، فهناك دولة تريد أن تفتح باب التفاوض لتفادي الانفجار، وهناك طرف مسلح يرفض هذا الخيار، ويُصر على إبقاء قرارات السلم والحرب خارج مؤسسات الدولة".
وأضاف: "حزب الله في بيانه الأخير وجّه رسالة واضحة للرئاسة والحكومة والبرلمان مفادها أن قرار السلاح ليس قابلاً للنقاش. وهذا في جوهره يعني أن الدولة لا تملك القدرة على التحرك بحرية، لا داخلياً ولا في المحافل الدولية".
وتابع كارلسون قائلاً: "المشكلة لم تعد فقط في التصعيد الإسرائيلي، بل في أن الحكومة اللبنانية نفسها تبدو عاجزة عن اتخاذ موقف موحد. هناك رئيس جمهورية يدفع نحو التفاوض، وغطاء سياسي داخلي واضح لهذا التوجه، لكن في المقابل هناك قوة مسلّحة تقول علناً إنها لا تعترف بهذا الخيار، ولا تسمح بفتح نقاش حوله".
وبحسب رأيه، فإن "إسرائيل تلتقط هذه التناقضات وتبني عليها. الغارات الأخيرة وسيلة ضغط لإجبار بيروت على اتخاذ خطوات واضحة تجاه ملف السلاح. هذا الضغط، بنظر الكثير من العواصم الغربية، لن يتوقف ما دامت الدولة غير قادرة على ضبط سلاح حزب الله أو حتى التعامل معه ضمن أطر مؤسساتية".
الأزمة أبعد من الجنوب
وأشار كارلسون إلى أن "المشكلة الأعمق ليست فقط في وجود سلاح خارج الدولة، بل في أن هذا السلاح يُستخدم اليوم كأداة للضغط على الدولة نفسها. حزب الله لا يقول فقط إنه سيواجه إسرائيل، إنما يقول بشكل غير مباشر إنه سيمنع الدولة من اتخاذ أي قرار لا ينسجم مع منطقه الخاص. وهذا يُقوّض أي إمكانية لوجود سياسة خارجية أو أمنية موحدة".
كما لفت إلى أن "المعادلة التي يُحاول الحزب فرضها الآن تعني فعلياً: لا تفاوض، لا مساءلة، ولا بدائل. وهذا يضع اللبنانيين أمام خيار صعب: إما السكوت والانتظار، أو الصدام الداخلي، أو التعرّض لضغوط إقليمية ودولية أكثر قسوة".
وحذّر من أن "الأزمة اليوم لم تعد أزمة جبهة جنوبية فقط، لكنها أزمة شرعية سياسية بالكامل. الرئاسات تتحدث، والجهات الدبلوماسية تحاول، لكن القرار الحقيقي على الأرض بيد جهة واحدة لا تستند إلى أي تفويض شعبي أو مؤسساتي. وهذا النموذج لا يمكن أن يصمد طويلاً من دون انفجار، إما سياسي أو أمني".
وختم بالقول: "لبنان دخل منطقة الخطر. إذا لم يحصل توافق داخلي سريع يعيد الأمور إلى منطق الدولة، فالأرجح أننا سنشهد مزيداً من التصعيد، ومزيداً من العزلة عن المجتمع الدولي. لأن الرسالة التي تصل للخارج اليوم هي أن قرار الدولة لا يُحترم، وأن سلاح الحزب صار أكبر من الدولة نفسها".
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآن| شاركنا رأيك في التعليقات | |||
| تابعونا على وسائل التواصل | |||
| Youtube | Google News | ||
|---|---|---|---|