بين لبنان وصندوق النقد الدولي مفاوضات مؤجَّلة وإصلاحات غير مكتملة
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
لم تختلف نتائج الاجتماعات التي عقدها الوفد اللبناني الرسمي مع صندوق النقد الدولي في إطار مشاركته في اجتماعات الخريف لصندوق النقد والبنك الدولي، عن سابقاتها ولا سيما اجتماعات الربيع الفائت. لا بل يبدو أن الهوّة لا تزال كبيرة بين ما يقوم به لبنان من اصلاحات، ومطالب صندوق النقد. الامر الذي يرى فيه مراقبون تشدداً متزايداً من الصندوق ينسجم مع تشدد المجتمع الدولي في شروطه السياسية، وعلى رأسها حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، وهو شرط لا يمكن تجاهله أو تخطيه.
وعلى الرغم من سعي لبنان الى الحفاظ على علاقات إيجابية مع المؤسسات المالية الدولية ولا سيما صندوق النقد، يزداد الصندوق تشدداً في مطالبه الإصلاحية ما أدى الى تأجيل موعد الاتفاق المبدئي بين الطرفين، وهو تأجيل ليس الأول ولن يكون الاخير. حيث يرى الصندوق أن ثمّة حاجة للمزيد من الخطوات، قبل أن ينضج أي اتفاق، حتى على مستوى الموظفين، وهو ما أكدت عليه بعثة الصندوق خلال زيارتها الى لبنان في شهر أيلول/سبتمبر الماضي.
وتجدر الإشارة الى أن علاقة لبنان بصندوق النقد الدولي لم تتعدَ حتى العام 2019، التوصيات على مستوى السياسات الاقتصادية والمالية للدولة، وذلك من خلال تقرير سنوي يصدره الصندوق بموجب البند الرابع من نظامه. والمفارقة أن هذه التوصيات لم تحل دون الانهيار المالي والاقتصادي الذي حل في لبنان منذ مطلع العام 2020. لا بل ربط الصندوق خروج لبنان من الازمة باتفاق معه لمنحه قرض يتراوح بين 3 و4 مليارات دولار، لمواجهة ازمة السيولة المتفاقمة التي ترافقت مع هذا الانهيار.
وفي ضوء النقاشات الأخيرة في واشنطن، برزت تساؤلات حول أسباب تشدد الصندوق إزاء الإصلاحات اللبنانية، وخصوصاً في القطاع المصرفي. إذ يعتبر الصندوق أن قانون إعادة هيكلة المصارف يتضمن ثغرات قانونية سبق أن حذّر منها قبل إقراره، ما يجعل تنفيذه شبه مستحيل، ولا سيما لجهة قرارات التصفية وإعادة الهيكلة.
وقد زاد الأمر تعقيداً بعد الطعون التي قُدّمت أمام المجلس الدستوري، وموافقته على بعضها، فضلاً عن أن القانون نفسه يحتوي على مواد تُعلّق تطبيقه على إقرار قانون الانتظام المالي أو قانون الفجوة المالية. ويصف الخبير الاقتصادي محمد فحيلي هذا الربط بأنه "أبطل القانون وسلب منه صلاحيته وأفرغه من مضمونه."
والى التعديل المطلوب لقانون إصلاح أوضاع المصارف، يعترض الصندوق على تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا، إن لجهة ترأسها من قبل حاكم مصرف لبنان أو لجهة ضمها لأعضاء يمثلون كياناتٍ تتأثّر بتوجهات وقرارات المصارف وجمعيتها. مع العلم أنّ أحكام هذا القانون هي التي ستحدّد توزيع الصلاحيّات داخل مصرف لبنان، فيما يتعلق بعمليّة إعادة هيكلة القطاع المصرفي. الامر الذي يجمع بين السلطة التقريرية والسلطة التنفيذية بيد الحاكم ويلغي أي دور للرقابة على قراراتها.
أما موازنة عام 2026 فكانت بدورها موضع انتقاد، إذ كان رئيس بعثة الصندوق أرنستو راميريز ريغو، يتوقع اتباع الحكومة نهجاً أكثر طموحاً في موازنة لعام 2026 مقارنةً بالمسوّدة التي أقرها مجلس الوزراء، وأن تشمل جميع أبواب الإنفاق المقدّرة، بما فيها تلك الممولة من الخارج. وأنه ينبغي أيضاً النظر في إصلاحات السياسة الضريبية، على الرغم من أن الموازنة تتضمن تصوراً لتوسيع القاعدة الضريبية وتحسين الامتثال، وذلك لتوفير موارد مالية للإنفاق على إعادة الإعمار والحماية الاجتماعية.
ويُعدّ قانون الانتظام المالي من أكثر الملفات تعقيداً في المفاوضات بين الوفد اللبناني وصندوق النقد الدولي، نظراً إلى الخلاف حول دور الدولة في تغطية الخسائر الناتجة عن الأزمة المالية. فالمصارف تدفع نحو تحميل الدولة جزءاً كبيراً من هذه الخسائر عبر تحويلها إلى التزامات على الدولة وبالتالي إلى دين عام، ما سيجعل استعادة الودائع شبه مستحيلة، ويرفع الدين العام إلى مستويات غير قابلة للاستدامة.
ويرفض الصندوق خطة توزيع الخسائر وآليات معالجة ودائع المصارف، بما في ذلك تحويل جزء من الودائع إلى سندات طويلة الأجل. وقد سبق أن صنّفت الودائع إلى ثلاث فئات: غير مشروعة، أو ذات فوائد مرتفعة، أو تلك التي حُوّلت من الليرة إلى الدولار بعد أزمة 17 تشرين الأول 2019.
ويكمن التباين الأساسي بين لبنان وصندوق النقد الدولي في إصرار لبنان على استخدام الآليات التقليدية لمعالجة أزمته غير المسبوقة، في حين يرى الصندوق أن الوضع الراهن يتطلب معايير استثنائية وحلولاً غير تقليدية.
ورغم الانتقادات الواسعة لسياسات صندوق النقد الدولي وتجارب الدول المتعثرة معه، فإن الموضوعية والإنصاف يقتضيان الإقرار بأن الصندوق مُحق في انتقاده لأداء لبنان الإصلاحي، الذي يتناقض مع الأهداف المعلنة ويعكس انحيازاً واضحاً لمصالح الطبقة السياسية والمصرفية، على حساب الاقتصاد الوطني والمودعين.
وهنا لا بد من السؤال ولعله الابرز: كيف تعيد الدولة اللبنانية حكومةً ومجلس تشريعي، تركيز السلطة المصرفية في يد حاكم مصرف لبنان، متجاهلين نتائج التجربة السابقة في عهد الحاكم رياض سلامة؟ ولماذا لا يُصار إلى فصل الهيئة المصرفية العليا ولجنة الرقابة على المصارف عن سلطة المصرف المركزي لضمان رقابة مستقلة فعلاً؟
ويبقى سؤال لا يقل أهمية، حول غياب الشفافية في الموازنة العامة التي لا تشمل جميع أبواب الإنفاق، بما في ذلك الممولة بموجب القروض الخارجية. فهل يمكن لموازنة «منقوصة» أن تُعفي الدولة من التزاماتها الدولية؟ تلك أسئلة تبقى مفتوحة في انتظار إصلاحات حقيقية تتجاوز الشكل إلى المضمون.
فلن تُخرج اجتماعات الربيع ولا الخريف لبنان من أزمته، ما لم تتوافر إرادة إصلاح حقيقية تنبع من الداخل لا من شروط الخارج. فالمطلوب اليوم خطةَ إصلاحٍ وطنية تضع مصلحة اللبنانيين قبل مصالح السياسيين والمصرفيين، وتمنع صندوق النقد الدولي من فرض وصفاته المجحفة بحق المودعين والموظفين، وبعيداً عن التجاذبات السياسية والضغوط الخارجية. وحدها القيادة المسؤولة والشجاعة قادرة على انتشال البلاد من دوّامة الانهيار، رحمةً باللبنانيين، لا خضوعاً لإملاءات الآخرين.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|