محليات

لبنان في قبضة الضغوط المركّبة

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يتقدّم المشهد اللبناني في الأسابيع الأخيرة نحو مرحلة شديدة التعقيد، تكشف عن تداخل غير مسبوق بين الضغوط السياسية الدولية، والاختبارات الأمنية الميدانية، والانكشاف الداخلي الذي يجعل من لبنان ساحةً مفتوحة على احتمالات متناقضة. فالمسار الذي بدأ بحديثٍ عن "تسوية ممكنة" عاد لينقلب إلى انسداد كامل بعد سقوط المبادرة الأميركية التي كانت تسعى إلى فتح قناة تفاوضية جديدة بين بيروت وتل أبيب، تقوم على مقايضة نزع تدريجي للسلاح بحوافز اقتصادية وترتيبات أمنية. ومع هذا السقوط، تبدو البلاد أمام واقع أشد تعقيدا، إذ لم يعد ممكنا التمييز بين الضغط الدبلوماسي والتهديد العسكري، بعدما باتا وجهين لسياسة واحدة تستهدف إعادة صياغة التوازنات اللبنانية من بوابة الجنوب.

التحولات الأخيرة تكشف أن واشنطن نقلت مركز ثقل مبادرتها من مرحلة "الإغراء بالحوافز" إلى مرحلة "التحذير بالعقوبات والتهديد بالعزلة"، في محاولة لدفع بيروت نحو القبول بمسار يختصر الصراع مع إسرائيل في عنوانٍ واحد هو سلاح "حزب الله". ومع أن هذا السلاح كان دوما مدار تجاذب داخلي وخارجي، إلا أن طرحه اليوم يجعل الاستجابة للضغوط ضربا من المغامرة، والمواجهة معها مخاطرة بتفجير الوضع الميداني. إن هذا المأزق المزدوج هو جوهر المعادلة اللبنانية الراهنة؛ لا قدرة على الحسم، ولا ترف في المماطلة.

في المقابل، تتعامل تل أبيب مع الانسداد الحالي بوصفه فرصة لإعادة فرض شروطها من موقع المنتصر. فعملياتها العسكرية المحدودة، واستمرار الانتهاكات الجوية والبرية، أدوات ضغط متدرّجة هدفها جرّ لبنان نحو مفاوضات مباشرة بشروط أمنية مسبقة. إن استراتيجية "الضغط بالنار" هذه تعكس قناعة إسرائيلية بأن ميزان الردع القائم منذ ما بعد حرب تموز بدأ يترنح، وأن الفرصة سانحة لتعديله بما يضمن لها مكاسب سياسية قبل أن تتحول خطوط التماس مجددا إلى جبهة حرب مفتوحة.

أما لبنان الرسمي، فمقيد بخيارات محدودة لا تسمح له بالمناورة. فهو من جهة لا يستطيع الذهاب إلى مواجهة عسكرية واسعة، ومن جهة ثانية لا يمكنه التنازل اكثر في ظل غياب أي ضمانات جدية تفرض التزام إسرائيل بوقف إطلاق النار أو الانسحاب من الأراضي المحتلة. وهكذا يتحول "الحياد الإيجابي" الذي كانت تطمح إليه الدبلوماسية اللبنانية إلى مجرد توازن ضعيف بين الصمود والتأجيل، تُترجم نتائجه على الأرض بقلق أمني دائم وانسداد سياسي متواصل.

إن خطورة المرحلة تكمن في أن كل القوى الخارجية تتعامل مع لبنان كأداة في صراع أوسع. فواشنطن تراه ساحة ضغط على طهران، وإسرائيل تعتبره امتدادا لجبهة غزة، بينما القوى الإقليمية تحاول توظيفه كورقة تفاوض في ملفاتها الكبرى. وسط هذا التشابك، يتحول كل حدث أمني إلى مؤشر سياسي، وكل مبادرة دبلوماسية إلى اختبار للسيادة.

وإذا كان سقوط المسار التفاوضي قد كشف حدود القدرة اللبنانية على إدارة الأزمات بالوسائل الدبلوماسية، فإن استمرار الانتهاكات اليومية يعيد التذكير بأن الجمود السياسي قد يكون أكثر خطرا من التصعيد نفسه. فالواقع القائم يشي بأن إسرائيل تتجه إلى تكريس معادلة جديدة وهي: إمّا تفاوض بشروطها، وإمّا تصعيد محسوب يفرض الأمر الواقع. وبين هذين الخيارين، يبدو لبنان محكوما بمنطق إدارة الأزمة لا حلّها، محاطا بضغوط تزداد كثافة كلما ضعف موقفه الداخلي وتعمّق انقسامه السياسي.

في النتيجة، لا يمكن قراءة التطورات الراهنة بمعزل عن سياق أوسع من إعادة رسم خرائط النفوذ في المنطقة. فلبنان لم يعد مجرد ملف ثانوي في حسابات القوى الكبرى، بل مساحة اختبار لقدرتها على ترجمة مصالحها في الشرق الأوسط الجديد. وفي ظل غياب رؤية لبنانية موحدة توازن بين مقتضيات الأمن ومتطلبات السياسة، قد يجد البلد نفسه مرة أخرى أمام سيناريو مكرر؛ ضغوط تُقدَّم على أنها فرص، وتسويات تُبنى على تنازلات، ومخارج مؤقتة تُخفي وراءها أزمة وجودية تمتد من الجنوب حتى عمق الكيان السياسي اللبناني.

داود رمال – "اخبار اليوم"

 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا