ما تحت الأرض أخطر مما فوقها... المغاور اللبنانية إلى الإنهيار؟
من مغارة جعيتا الشهيرة، إلى مغاور تنورين والريحانية وإده، وصولاً إلى المغاور الساحلية في عمشيت والبترون، تمتد شبكة من المغاور الطبيعية تعتبر من بين الأجمل في الشرق الأوسط، ففي عمق الجبال اللبنانية وتحت تربتها الغنية بالتاريخ، توجد أكثر من 700 مغارة موثقة، وفق تقديرات خبراء الجيولوجيا، لكن معظمها ما زال مجهولا، أو مطمورا تحت الردم، أو مهددا بانهيارات طبيعية وتعديات بشرية، في ظل غياب أي خطة وطنية شاملة لحمايتها، فبدل أن تكون مصدر فخر وازدهار، تترك اليوم فريسة للإهمال، والتعديات، والاستغلال العشوائي، في مشهد يعكس غياب الرؤية البيئية والتنموية لدى الدولة اللبنانية.
وأكد خبراء الجيولوجيا أن "المغاور ليست مجرد تجويفات صخرية، بل سجل جيولوجي حي يروي تاريخ الأرض والمناخ، كل متر منها يحتوي على معطيات علمية يمكن أن تساهم في دراسات عالمية حول البيئة والمياه الجوفية"، مشيرين إلى ان لبنان "يقف على ثروة جيولوجية وسياحية ضخمة لم تستثمر بعد، بل تدمر تدريجيا بفعل غياب الرقابة والمحاسبة".
آخر الاعتداءات سجلت في مطلع خريف 2025 في عمشيت، حيث، استفاق الأهالي على مشهد مؤلم، آليات ثقيلة تعمل على حفر وجرف الصخور بالقرب من مغارة الفقمة إحدى التحف الطبيعية النادرة على الساحل اللبناني، والتي تشتهر بتكويناتها المائية والكلسية، والتي كانت تعرف أيضا بكونها موطنا مؤقتا للفقمات التي تظهر أحيانا خلال مواسم معينة.
وفي هذا السياق تقدمت جمعيّة "الأرض – لبنان" بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة لوقف تنفيذ وإبطال رخصة البناء فوق مغارة فقمة–الراهب في عمشيت، معتبرة أن المشروع يخالف قانون حماية البيئة رقم 444/2002 والمرسوم التطبيقي لتقييم الأثر البيئي رقم 8633/2012، ورغم أن المجلس رد الدعوى لأسباب شكلية تتعلق بمهلة التقدم، أكدت الجمعية أن جوهر القضية البيئي لم يبحث بعد، مشددة على أن لرئيس بلدية عمشيت الصلاحية القانونية الكاملة لوقف الأعمال فوراً استناداً إلى المادة الرابعة من قانون البناء رقم 646/2004، حفاظاً على المغارة والموقع الطبيعي الفريد.
وأكد ناشط بيئي فضل عدم الكشف عن اسمه أن "ما حصل في عمشيت ليس مجرد تعد، بل جريمة بيئية، المغارة كانت تشكل نظاما بيئيا متكاملا، والاعتداء عليها دمر جزءا من تاريخ طبيعي لا يقدر بثمن"، وأوضح أن " بلاغا رسميا قدم إلى وزارة البيئة وإلى بلدية عمشيت، لكن الرد كان خجولًا وحتى الآن، لم تفتح أي تحقيقات جدية، ولم توقف الأعمال بشكل كامل."
واضاف الناشط البيئي "لبنان بحاجة إلى مسح وطني شامل لتوثيق المغاور، فما نعرفه اليوم هو أقل من 30% مما يوجد فعليا في باطن الأرض، بعضها يمكن أن ينهار في أي لحظة بسبب الاعتداءات المستمرة، عبر المقالع، أو المشاريع الخاصة، أو الردميات الساحلية، وكأن الأرض بلا ذاكرة"، مؤكدا أن "الدولة لم تصدر بعد أي قانون خاص بحماية المغاور، وهذا الفراغ القانوني يسمح لأصحاب المشاريع الخاصة بالتمادي في الانتهاكات، خصوصا عندما تتقاطع مصالحهم مع نفوذ سياسي".
وختم الناشط البيئي قائلاً "لبنان يخسر أجمل ما يملكه بصمت، فالمغاور ليست مجرد مشهد طبيعي، بل إرث وطني وجزء من هوية البلد، إذا لم نتحرك الآن، سنروي بعد سنوات قصص المغاور كما نروي اليوم حكايات الغابات المقطوعة والأنهار الملوثة بحسرة"، وطالب بإعلان المغاور الكبرى مناطق محمية طبيعية، ومنع أي نشاط إنشائي ضمن شعاع أمان بيئي يحدده خبراء الجيولوجيا.
ولا تقتصر أهمية المغاور على البعد البيئي فقط، بل تلعب دورا اقتصاديا وسياحيا مهما، يمكن أن يسهم بشكل مباشر وغير مباشر في رفع مستوى الاقتصاد المحلي والوطني، فالمغاور الكبرى مثل جعيتا وقاديشا وأفقا تجذب آلاف السياح سنويا من الداخل والخارج، ما يعزز الإيرادات السياحية ويفتح فرص عمل للسكان المحليين في الإرشاد السياحي والخدمات المصاحبة، كما تساهم في جذب البحث العلمي والسياحة البيئية، ما يرفع مكانة لبنان دوليا ويجعل استثمارها المستدام محركا مهما لتنويع مصادر الدخل الوطني وتقوية الاقتصاد بعيدا عن الاعتماد على القطاعات التقليدية.
فعلى سبيل المثال، تستقطب مغارة جعيتا ربع عدد السياح في لبنان، ففي سنة 2004 بلغ عددهم نحو 1,300,000 سائح وفق إحصاءات وزارة السياحة اللبنانية، استقطبت منهم مغارة جعيتا وحدها حوالى 361 ألف سائح من مجموع السياح الذين زاروا لبنان في السنة نفسها، ما يدل على أهمية سياحة الاستغوار في تنويع المنتوج السياحي اللبناني، واستقطاب الجيولوجيين والمستغورين والمثقفين وعشاق الطبيعة والسياحة البيئية.
الخبير السياحي عون أبي عون أكد أن لبنان يضم شبكة واسعة من المغاور، تتراوح بين أثرية تحتوي على فخاريات ومخطوطات ورسومات تاريخية، مثل وادي قاديشا، ومغاور طبيعية تتميز بتكوينها الجيولوجي الفريد، مشيراً إلى أن هذه المغاور تعكس تاريخ الإنسان وثراء البيئة اللبنانية.
وشدد عون على أن المغاور في لبنان ليست جميعها مؤهلة للسياحة، فلكل مغارة خصوصيتها ومتطلباتها، مضيفا "أي مغارة نفكر في تحويلها إلى مقصد سياحي تحتاج إلى دراسات دقيقة، وتتطلب توفير معايير السلامة والأمان، أو تخصيصها للسياحة المتخصصة للمحترفين فليس كل المغاور صالحة لدخول الزوار."
وأكد عون إلى أن استغلال المغاور بشكل عشوائي قد يؤدي إلى تدهور بيئتها الطبيعية وتدمير إرثها التاريخي، مشدداً على أن المغاور هي ثروة بيئية وتاريخية ومائية يجب الحفاظ عليها، وأشار إلى أن أبرز المخاطر التي تهدد المغاور في لبنان تشمل:
- الكسارات: التي تؤدي إلى تدمير البيئة المحيطة وتسبب تصدعات في الصخور.
- العمار العشوائي: البناء غير المنظم بالقرب من المغاور يعرضها للانهيارات والتلوث.
- تأثير بعض المؤثرين ( (Influencersلذين يروجون لزيارات غير منظمة، مما يزيد من الضرر البيئي ويعرض الزوار للخطر.
ولحماية المغاور اللبنانية وإنقاذها من الضياع، يؤكد الخبراء على ضرورة اعتماد خطة وطنية متكاملة تشمل توثيق جميع المغاور اللبنانية في سجل وطني مفصل يحدد حجمها وطبيعتها وحالتها البيئية والأنشطة المحيطة بها، وإعلان المغاور الكبرى كمحميات طبيعية تخضع لحماية قانونية صارمة، وتعزيز الدور الرقابي للوزارات المعنية، لا سيما وزارة البيئة بالتعاون مع وزارة السياحة والبلديات، لضمان استدامة الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى تنظيم السياحة البيئية من خلال تجهيز المغاور المناسبة للزوار بمسارات آمنة وإقامة مراكز تعليمية وثقافية تدعمها رسوم رمزية، وتفعيل القوانين لمعاقبة المخالفين بالغرامات والإغلاق الفوري للمشاريع غير القانونية، مع التركيز على توعية المجتمع المحلي عبر حملات إعلامية وتربوية لتشجيع السكان على المشاركة في حماية المغاور واستثمارها بشكل مستدام.
يشار إلى أن لبنان غني بالمغاور الطبيعية التي تجمع بين الجمال الجيولوجي والأهمية السياحية، أبرزها:
- مغارة جعيتا في وادي نهر الكلب، المشهورة بتشكيلاتها الكلسية وطبقاتها العليا والسفلى، اكتشفها الأميركي ويليام تومسون في ثلاثينات القرن الميلادي التاسع عشر، ويقال إنه في حينه توغل فيها نحو 50 متراً، وفي عام 1873 استكشفها فريق من المهندسين البريطانيين كان يعمل في شركة مياه بيروت.
- مغارة قاديشا قرب غابة الأرز في بشري، التي اكتشفت على يد لجنة محلية بعد محاولات راهب عاش حياة نسكية.
- مغارة أفقا في جرود جبيل المتميزة بارتفاعها وشلالاتها
- مغارة كفرحيم في الشوف التي اكتشفت بالصدفة من قبل فتيان
- مغارة الزحلان في الضنية ذات ثلاث الطبقات والهياكل المتحجرة.
- مغارة الريحان جنوب لبنان، التي اكتشفها مزارع صدفة.
- مغارة الرويس في العاقورة الغنية بالصواعد والهوابط مع نهر جوفي.
- مغارة مبعاج في جبيل وهوة قطين عازار في المتن، ثاني أعمق هوة في لبنان وأطول امتداد جوفي، إلى جانب مغاور أخرى مثل مغارة الكسارات في نابيه قضاء المتن، و مغارة بلعيص، القلانسية، هوة صليبا، مغارة بنت الملك، فوار دارة، هوة الحمرا، ومغارة قانا الجنوبية، ما يجعل لبنان من أبرز الدول في المغاور الطبيعية الساحرة.
ربى أبو فاضل- الديار
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|