إقتصاد

الذّهب يتصدّى لهيمنة الدّولار “المسلّح”

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لأكثر من سبعة عقود، ساد الدولار الأميركي باعتباره العملة الاحتياطية المهيمنة في العالم، وهو حجر الزاوية في التجارة العالمية والتمويل واحتياطات المصارف المركزية. منحت هذه الهيمنة الولايات المتّحدة ما أطلق عليه فاليري جيسكار ديستان “امتيازاً باهظاً”، وهو القدرة على الاقتراض بثمن بخس وإدارة العجز المستمرّ ونشر القوّة الناريّة الماليّة في أوقات الأزمات من دون مواجهة العواقب المعتادة للدول المدينة. فما الذي تغيّر حتّى صار الذهب ملاذاً دائماً؟

ما كان الدولار في يوم من الأيّام نعمة يُنظر إليه الآن بشكل متزايد على أنّه نقطة ضعف من قبل الآخرين. وبينما تستفيد واشنطن من نظامها الماليّ لتحقيق غايات جيوسياسيّة، مثل معاقبة الدول ذات السيادة وتجميد الاحتياطات وعزل الخصوم، تطوّر دور الدولار من وسيلة تبادل محايدة إلى أداة للإكراه.

أدّى هذا التحوّل إلى إعادة تقويم هادئة لكنّها عميقة. المصارف المركزية، خاصّة في جنوب الكرة الأرضيّة وبين المنافسين الجيوسياسيّين، لجأت إلى التنويع بعيداً عن الدولار فتحوّلت نحو الذهب ليكون رمزاً وأداة للسيادة النقدية.

هذا التحوّل هو أكثر من تحوُّل اقتصادي. إنّه جيوسياسي ومنهجيّ. يستكشف ما يلي الطبيعة المزدوجة للهيمنة على الدولار، في جانبها الصعوديّ والسلبيّ، وكيف أنّ تسليح النظام الماليّ الأميركي يقود إلى إعادة التفكير العالمي في الاعتماد النقدي. وليست هذه التداعيات استراتيجيّة بالنسبة للقوى العظمى فحسب، بل وجوديّة بالنسبة للبلدان الأقلّ نموّاً، حيث يتردّد صدى النضال من أجل الاستقلال الماليّ في كلّ أزمة في ميزان المدفوعات، ومع كلّ قرض من صندوق النقد الدولي، وفي كلّ اقتصاد “دولريّ” تحت الإكراه.

“امتياز باهظ”: الجانب الصعوديّ لهيمنة الدّولار

 اشتهر فاليري جيسكار ديستان بهذا المصطلح في الستّينيّات، في إشارة إلى كيفيّة تمتّع الولايات المتّحدة بمزايا هيكليّة من وضع العملة الاحتياطيّة للدولار:

انخفاض تكاليف الاقتراض (إذ يحتاج العالم إلى سندات الخزانة الأميركية).
عجز تجاري مستمرّ من دون أزمة (لأنّ الدولار مطلوب دائماً).
المرونة الماليّة في الأزمات (على سبيل المثال، تحفيز COVID، التيسير الكمّي (Quantitative Eazing)، عمليّات الإنقاذ).
لكنّ هذا الامتياز يترافق مع استياء منهجيّ متزايد، وخاصّة بين البلدان والمصارف المركزيّة التي تهتمّ بشكل متزايد بالسيادة والأمن.

تسليح الدّولار

الجانب السلبيّ منذ 11 أيلول (9\11، وأكثر من ذلك بعد عام 2014 مع شبه جزيرة القرم، وعام 2022 مع الغزو الروسي لأوكرانيا). حوّل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية (OFAC) النظام الماليّ القائم على الدولار إلى آليّة عقابيّة جيوسياسيّة من خلال:

معاقبة المصارف المركزية السيادية (روسيا وإيران وفنزويلا وسوريا).

تجميد الاحتياطات الأجنبية (على سبيل المثال، أكثر من 300 مليار دولار من الاحتياطات الروسيّة في عام 2022).

استهداف الأفراد ورؤساء الدول (مثل الأسد ومادورو وغيرهما).

أدّى تسليح الدولار هذا إلى تنبيه محافظي المصارف المركزية على مستوى العالم إلى الضعف المتأصّل في استخدام الدولار في الاحتياطات أو التجارة.

الذّهب درع سيادة

ردّاً على ذلك:

تعمل المصارف المركزية (وخاصّة الصين وروسيا وتركيا وغيرها في جنوب الكرة الأرضية) على تنويع احتياطاتها من العملة الأجنبية بعيداً عن الدولار.
لم يكن أكبر مشتري الذهب في السنوات الأخيرة مستثمري القطاع الخاصّ بل المصارف المركزية. يُنظر إلى الذهب على أنّه محايد وغير قابل للاستيلاء عليه وخارج نظام SWIFT.
لم ترتفع جاذبيّة الذهب بما هو تحوّط ضدّ التضخّم وحده، بل وتحوّط ضدّ الإكراه القائم على الدولار.

الآثار المترتّبة على النّظام العالميّ والدّول الأقلّ نموّاً

أدّى تسليح الدولار إلى تآكل الثقة بالنظام الماليّ “القائم على القواعد”، الذي بات يُنظر إليه بشكل متزايد على أنّه امتداد للهيمنة السياسية الأميركية، لا إطار محايد للتبادل العالميّ. وقد دفع ذلك العديد من الدول إلى البحث عن بدائل تُقلّص من تبعيّتها لهذا النظام، من خلال إنشاء أنظمة دفع موازية مثل CIPS في الصين، وتوسيع التجارة الثنائية بعملات محلّية كما بين الهند وروسيا، علاوة على مبادرات طموحة مثل عملة البريكس الموحّدة.

لكنّ التداعيات لا تقتصر على القوى الصاعدة فقط، بل تمتدّ بوضوح إلى الدول الأقلّ نموّاً، حيث تتجلّى الهشاشة الماليّة بأشدّ صورها. فهذه الدول غالباً ما تجد نفسها مكبّلة بالتزامات خارجية مقوّمة بالدولار تتحوّل في الأزمات إلى أدوات للأسر الاقتصادي، في حين يُقوّض الاعتماد على العملة الأميركية قدرتها على استخدام أدوات السياسة النقدية والمالية لمواجهة الصدمات.

من هنا، لا تعكس الدعوات المتزايدة إلى إعادة هيكلة الديون الخارجية طلباً محليّاً فقط، بل تتناغم مع موجة عالميّة من إعادة النظر في الاعتماد المفرط على الدولار.

في المحصّلة، يلوح في الأفق خطر تَشَظّي النظام الماليّ العالمي إلى كتل نقديّة متباينة، مناطق نفوذ للدولار، واليوان، وربّما الذهب، في مشهد قد يفتقر إلى التنسيق ويقوّض استقرار الاقتصاد العالمي، خاصّة بالنسبة للدول الهشّة التي تجد نفسها عالقة بين المحاور.

هيمنة غير قابلة للمنافسة

لا تزال هيمنة الدولار غير قابلة للمنافسة على المدى القصير، لكنّها لم تعُد بمنأى عن التحدّيات البنيويّة التي أخذت تتكشّف على شكل شقوق واضحة في جدار الثقة العالمي بهذا النظام. فما كان في الأمس امتيازاً يُحسد صاحبه عليه، بات ينظر إليه اليوم كثيرون، خصوصاً في العالم النامي، قيداً على السيادة ومصدر تهديد للقرار الوطني المستقلّ.

في عالم يتزايد فيه الانقسام بين الشرق والغرب، وتتصاعد فيه النزعات الحمائيّة والمنافسة الجيوقتصاديّة، يتعدّى الذهب كونه أصلاً تقليديّاً ليصبح بياناً سياديّاً وأداة صامتة في معركة إعادة صياغة توازن القوى الماليّة. والدولار الذي كان يُنظر إليه حجر زاوية للاستقرار العالمي، يُعاد اليوم تقويمه بعيون أكثر واقعيّة، وأكثر ريبة. أمّا الذهب فقد يتخطّى في هذا الزمن المتقلّب كونه احتياطيّاً ليكون لغة النظام العالمي المقبل.

محمد فحيلي - اساس ميديا
 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا