وزير الاقتصاد: على أصحاب المولدات الالتزام بالتسعيرة الرسمية وإلّا...
السويداء... حين تُرفض الفدرالية تتنامى النزعة الاستقلالية
لم تكن عابرة أو عفوية تظاهرة «حق تقرير المصير» في السويداء السبت الفائت. خرج دروز المحافظة ليعبّروا عمّا يختلج في قلوبهم ووجدانهم بعد «الغزوة» التي تعرّضوا لها على يد عشائر البدو وقوات دمشق. استحال سقف مطالب الشارع الدرزي مرتفعًا للغاية، وخير ما جسّد جانبًا من هذا الموقف العالي النبرة ما صدر على لسان سيّدة اعتلت المنصّة في «ساحة الكرامة» لتجاهر بشكل حازم برفضها التعريف عن نفسها بأنها «سورية»، لأنه غدا بالنسبة إليها «وصمة عار»، ولم تتردّد بإعلانها رفض الدروز الفدرالية والإدارة الذاتية، مطالبة بـ «الاستقلال التام»، وجزمت بأن ذلك يعني «طلاق الدروز» مع سوريا، وسط تصفيق حارّ من الحضور، الذين لوّح بعضهم بأعلام إسرائيلية، وفق ما أظهره مقطع فيديو انتشر على منصّات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.
كلام هذه السيّدة الحانقة مِمّا تعرّض له الدروز من مجازر، حالها حال الكثير من أبناء الطائفة المكلومة، يُمثل شريحة تزداد اتساعًا في أوساط بني معروف، إلّا أن شريحة أخرى من الدروز لا تحبّذ الذهاب إلى حدّ المطالبة بالانفصال عن سوريا. لكن ما قد يتفق عليه الفريقان أن الوضع في البلاد لا يمكنه أن يستقيم في ظلّ حكم مركزي ذي صبغة طائفية لا تعترف بالتعدّدية وتحترمها. كانت جليّة الرسائل السياسية التي تضمّنتها الشعارات الصادرة من حناجر المحتجّين الدروز، الذين ردّدوا هتاف «السويداء حرّة حرّة... الجولاني يطلع برّا»، ورفعوا لافتات تؤكّد قدسية «حق تقرير المصير» وتطالب بإخراج القوات السورية من قرى السويداء وبفتح معابر إنسانية، متّهمين سلطات دمشق بفرض «حصار» على المحافظة الجريحة لمعاقبتها لرفضها الخضوع للنظام الجديد.
سارع الرئيس السوري أحمد الشرع إلى الردّ خلال جلسة حوارية بثّها التلفزيون الرسمي ليل السبت - الأحد، واصفًا مَن يسعون إلى التقسيم بأنهم «حالمون»، وحذر من أن الأفكار الحالمة تودي بأصحابها إلى الانتحار في أحيان كثيرة، حاسمًا أن «المجتمع السوري غير قابل للتقسيم»، بيد أنه اعتبر أن معركة توحيد بلاده بعد سنوات من الحرب «يجب ألا تكون بالدماء والقوة العسكرية»، مع وجود معضلات متفاقمة تواجهها دمشق، تبدأ بالسويداء ولا تنتهي بمناطق سيطرة «قسد». وهنا يطرح سؤال بديهي: «ما السبيل الأفضل لتوحيد البلاد الممزقة الأوصال بعيدًا من الدماء ولغة النار؟». الأكيد أن مزيدًا من «الحملات الجهادية» الدموية لن تفلح بعملية التوحيد، بل على العكس من ذلك، ستزيد من حال الانقسام المجتمعي وتروي تربة التقسيم الخصبة أصلًا.
لنشدّد أوّلًا على مسألة جوهرية تتلاحم مع مفهوم «الحرّية» بكافة جوانبه وتضمن حق «الآخر» المختلف في الوجود الحرّ، الآمن والكريم، وهي أن «حق تقرير المصير» هو حق بديهي لأي شعب متمايز عن محيطه، رغم صعوبة الحصول على الدعم الخارجي اللازم لتسهيل تحقيق مثل هذا الهدف. إن «حق تقرير المصير» هو العدوّ الطبيعي للديكتاتوريات على أنواعها ولـ «الاستعمار الداخلي» ولـ «الحق الإلهي» الذي يستمدّ منه العقائديون الإلغائيون «شرعيّتهم» ويفرضون من خلالها سطوتهم على الجميع. إذا وضعنا جانبًا أقصى أشكال «حق تقرير المصير»، ألا وهو «الاستقلال»، الذي يحتاج إلى ظروف دولية مؤاتية قد لا تكون متوفرة حاليًا، يبقى أن هذا الحق قد يترجم بشكل آخر أكثر قابلية للتطبيق، ويحفظ وحدة البلاد وسيادتها، ويعطي كلّ ذي صاحب حق حقه، وتاليًا يسحب «الحجج الدسمة» التي تجلب عادة تدخلًا خارجيًا داعمًا لمصلحة هذه الفئة أو تلك.
أحد أبرز الأمثلة الصارخة التي يمكن الركون إليها، إن كان لدى المعنيين إرادة فعلية لتحقيق الوحدة في إطار قالب تعدّدي، هي الفدرالية. تستطيع الفدرالية، أي الاتحادية، «توحيد» البلاد بإعطاء الأقليات حكمًا ذاتيًا تحت سقف دستور فدرالي يُحدّد الحقوق والواجبات والصلاحيّات، وينظّم العلاقات بين المركز والأقاليم. وكلّ هذا يتبلور تحت مظلّة دولة واحدة تحترم كافة مكوّناتها بغض النظر عن انتماءاتها الدينية أو الإثنية أو اللغوية. صحيح أن السيّدة الجريئة التي خاطبت منتفضي «ساحة الكرامة» رفضت الفدرالية، بيد أن موقفها نابع من مأساة جسيمة ما زالت تلقي بثقلها على أهالي السويداء. لذا، فإن هذه السيّدة الكريمة وأمثالها لن يكونوا معترضين أو حزينين إذا ما حصلوا على حقوقهم في «سوريا الجديدة».
لكن هذا الصوت سيرتفع بالتأكيد ويزداد صخبًا ويحصد أنصارًا بسرعة البرق، طالما بقي النهج السائد بأن الوحدة تفرض بالسيف وباسم فئة معيّنة وعلى حساب الآخرين. أحداث الساحل والسويداء السوداوية، والانتهاكات والتجاوزات السائدة على الأرض، عقّدت العلاقات المضطربة أكثر بين المكوّنات السورية وعمّقت التباين بين دمشق و«قسد»، ما يُثير المخاوف من وصول الأمور إلى نقطة الانفجار. إذا كانت هناك نوايا حقيقية لانتشال البلاد من الاقتتال الأهلي المتناسل وتشييد نظام لا يرسّخ وجوده بقمع بنى مجتمعية معيّنة، فإنّ الحلّ الجذري واضح كعين الشمس. عندما تشيطن الفدرالية وترفض اعتمادها كمشروع إنقاذ، وتنتهك حقوق الأقليّات، لا عتب إطلاقًا على مَن يرفع شعار «الاستقلال» لمواجهة «الأعاصير الوجودية» التي قد تحكم على مجتمعه بالزوال أو تجعله واهنًا وصاغرًا.
حين توصد كلّ أبواب الحلول التشاركية العادلة في أجواء مشبّعة بالأحقاد، ستدفع المضطهدين والمظلومين إلى اختيار مسار الطلاق والانفصال. ثمّة نافذة مفتوحة برعاية دولية قد تتيح تدارك الأسوأ، على أمل اغتنامها بحنكة قبل أن تسبقها التحوّلات الخاطفة ويطويها الزمن.
جوزف حبيب -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|