إقفال "القرض الحسن": مدخل إلزامي لإحياء القطاع المصرفي اللبناني
تعميم مصرف لبنان رقم 170، الذي حظر التعامل مع جمعية "القرض الحسن" قبل أسابيع، جاء متناغمًا مع قرار الحكومة الأخير بحصر السلاح بيد الدولة، في إشارة واضحة إلى أنّ المعركة لم تعد أمنية فقط، بل مالية أيضًا. فكما أنّ احتكار القوة العسكرية شرط لقيام الدولة، فإن احتكار السلطة النقدية والمالية هو الركيزة الثانية لاستعادة السيادة.
في بلد يعاني من انهيار اقتصادي غير مسبوق، تتشكّل موازين القوة المالية خارج النظام الرسمي، ويصبح الاقتصاد الموازي هو اللاعب الأخطر. في قلب هذا المشهد، تبرز جمعية القرض الحسن، التي تتخذ من العمل الخيري غطاءً، لكنّها عملياً تعمل كمؤسسة مالية متكاملة خارج رقابة الدولة. استمرار وجودها لا يعني فقط تحديًا للقوانين، بل تهديدًا مباشرًا لعملية إعادة بناء القطاع المصرفي وإعادة الثقة إليه. فحين تمتلك جهة واحدة، مرتبطة بشكل وثيق بتيار سياسي - عسكري خارج سلطة الدولة، القدرة على منح القروض وإدارة المدخرات، وحتى تشغيل أجهزة الصراف الآلي، فإنّنا أمام مصرف كامل يعمل في الظل، يمتص جزءًا من النشاط المالي بعيدًا من مصرف لبنان والقطاع المصرفي الشرعي.
أهمية إقفال "القرض الحسن" لا تتعلق فقط بمنع جهة سياسية من استخدام المال كأداة نفوذ، بل بوقف عملية إفراغ المصارف الرسمية المرخّصة من دورها. منذ العام 2019، ومع تجميد أموال المودعين، لجأ عشرات الآلاف من اللبنانيين إلى هذه الجمعية بحثاً عن سيولة وخدمات مصرفية، ما جعلها تحلّ مكان البنوك التقليدية في شريحة واسعة من المجتمع. هذا التحول عزّز اقتصادًا موازيًا يصعب ضبطه، وخلق نظامًا ماليًا مزدوجًا، أحدهما خاضع للرقابة والالتزامات الدولية، والآخر خارج أيّ إطار قانوني أو مصرفي عالمي.
القطاع المالي في لبنان، رغم أزماته، لا يمكن أن يُعاد إحياؤه إلاّ إذا كان موحدًا، شفافًا، وخاضعًا للمعايير الدولية. وجود مؤسسة بحجم "القرض الحسن"، تمارس نشاطًا مصرفيًا من دون ترخيص مصرفي، يقوّض أيّ محاولة للتفاوض مع المؤسسات المالية الدولية أو جذب الدعم الخارجي. فالمجتمع الدولي، وصندوق النقد الدولي تحديدًا، يراقب قدرة لبنان على ضبط حركة الأموال ومنع استخدامها في تمويل أنشطة محظورة، واستمرار هذه الجمعية يعني رسالة واضحة أنّ الدولة عاجزة عن بسط سلطتها على كامل النظام المالي.
من زاوية اقتصادية بحتة، إغلاق القرض الحسن سيعيد جزءًا من الكتلة النقدية إلى المسار الرسمي، ويجبر المتعاملين معها على العودة إلى البنوك الخاضعة للرقابة، وهو ما قد يسهم في إعادة بعض التوازن للقطاع المصرفي. أما من الزاوية السياسية، فإنّ إنهاء نشاطها يسحب من "حزب الله" ورقة ضغط قوية على الداخل اللبناني، حيث شكّلت الجمعية على مدى عقود وسيلة لتثبيت الولاءات من خلال تقديم القروض والخدمات بشروط ميسّرة، مستفيدة من الانهيار المالي لتوسيع نفوذها.
الإبقاء على هذه المؤسسة يعني استمرار التناقض القائم بين الخطاب الرسمي عن الإصلاح، والواقع الذي يسمح بوجود نظام ماليّ موازٍ لا يعترف بالقوانين المصرفية. والأخطر أنّ هذا التناقض يفتح الباب أمام مزيد من العزلة المالية للبنان، حيث ستُصنّف البلاد كملاذ غير آمن للاستثمار، وتبقى تحت شبح العقوبات، ما يعرقل أيّ خطة للنهوض الاقتصادي.
إنّ إقفال "القرض الحسن" ليس مسألة مواجهة سياسية، بل خطوة أساسية لإعادة بناء الدولة من أساسها، وإعادة الاعتبار للمؤسسات المالية الشرعية، وإثبات أنّ لبنان قادر على إدارة اقتصاده ضمن قواعد القانون الدولي.
في النهاية، معركة إقفال القرض الحسن هي معركة على شكل لبنان المالي في المستقبل: هل سيكون بلدًا بثنائية اقتصادية ومالية تُغذّي الانقسام وتمنع الإصلاح، أم دولة تملك سلطة واحدة على اقتصاد واحد، قادر على النهوض من أزمته واستعادة ثقة مواطنيه والعالم به؟
عماد الشدياق -نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|