"الحزب" في قتال تراجعي
انتقل "حزب الله" من الموقع المبادر إلى الحروب، إلى الموقع المتلقي للضربات العسكرية من دون أن يجرؤ على الردّ ولا الانتقام لعناصره التي تغتال يوميًا، ومن الموقع المصادِر لقرار الدولة، إلى الموقع المطوَّق من الدولة، ومن الموقع المعطِّل للحياة السياسية، إلى الموقع المحاصر وطنيًا وسياسيًا، ومن الموقع الفاعل، إلى الموقع المفعول به، وبالمختصر أصبح "الحزب" على خط الدفاع في الخارج والداخل وفي قتال تراجعي عسكريًا وسياسيًا.
ولم تعد الإشكالية المطروحة على غرار ما كانت عليه قبل "حرب الإسناد" عندما كان "الحزب" يقضم الدولة ولبنان تدريجيًا، إنما أصبحت في منعه للبنان من أن يعود دولة طبيعية، ومنعه للبنانيين من العيش بأمان واستقرار، وهذا ما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار إنهاء سلاحه وكل سلاح غير شرعي في جلستي 5 و 7 آب من منطلق عدم جواز إبقاء لبنان معزولًا وفي مستنقع الفوضى والانهيار، ومن المنطلق الدستوري السيادي أولًا وأخيرًا كونه لن تقوم قيامة للبنان في ظل سلاح خارج الدولة.
والسؤال الذي يطرح نفسه: بماذا يفكِّر "حزب الله"، وماذا ينتظر، وعلى ماذا يراهن، وماذا يريد؟ فالمواجهة مع إسرائيل انتهت، وتلقيه السلاح لم يعد ممكنًا، والدولة برئيس جمهوريتها ورئيس حكومتها وسلطتها التنفيذية ترفض السلاح خارجها، ولم يعد لديه أي بيئة وطنية حاضنة لما يسمى مقاومة، وعواصم القرار الغربية والعربية تخيِّر بيروت بين احتضانها سياسيًا ودعمها ماليًا في حال استعادت قرارها ودورها، وبين تركها لقدرها ومصيرها.
فمع إسرائيل يقاتل "حزب الله" خطابيًا، فيما هي تواصل قتالها ضدّه عسكريًا إلى حد أنها تحصي أنفاسه، ومع الدولة اللبنانية هو في قتال سياسي تراجعي، فيما الدولة تتقدّم عليه بالنقاط، وقرار الخامس من آب الحكومي أسقَط عنه الشرعية بشكل كامل ووضعه أمام مهلة زمنية سقفها آخر السنة الحالية لنزع سلاحه، وإذا كان لم يعد باستطاعته استخدام سلاحه ضدّ إسرائيل، فلم يعد بإمكانه أيضًا استخدامه لا ضد السلطة، ولا في إقفال الطرق، لأن الجيش أقوى منه ولن يسمح له بذلك، ولن يضع نفسه أساسًا في مواجهة خاسرة وطنيًا وسياسًيا وعسكريًا.
وألم يكن من الأشرف لـ "حزب الله" لو بادر من تلقاء نفسه وأعلن انتهاء مشروعه المسلّح، خصوصًا أن الظروف المحلية والإقليمية لهذا المشروع انتهت وانتفت، وأصبح بقدر ما يتمسّك بمشروعه، بقدر ما يبهدل نفسه، لأنه ما قيمة سلاح خسر إلى الأبد الوظيفة التي يدّعي أنه يؤديها في مواجهة إسرائيل، وما قيمة سلاح غير قابل للصرف في الداخل اللبناني؟
وما هو واضح وثابت لغاية اليوم من خلال المواقف الإيرانية المكررة والرافضة لقرار الحكومة اللبنانية نزع سلاح "الحزب"، أن طهران لم تستوعب بعد خسارتها المزدوجة: خسارة الورقة اللبنانية كورقة من أوراق ابتزازها ومفاوضاتها، وخسارة درّة تاجها التي أنفقت عليها عشرات المليارات وكانت أوّل نتاج لتمدُّد مشروعها التوسعي والتخريبي.
فهناك رفض إيراني واضح لخسارة الورقة اللبنانية بعد خسارتها الورقة السورية والورقة الفلسطينية، وقد اضطرت إلى الدخول مباشرة على الخط بعدما لمست عجز "حزب الله" عن مواجهة القرار الحكومي، ولكن اعتراضها غير قابل للصرف شأنه شأن ذراعها في لبنان، ولا يتجاوز الاعتراض اللفظي والكلامي الذي يوحي بأنه على استعداد للخربطة في حال مضت الحكومة بتنفيذها قرارها.
والموقف الإيراني يفسِّر موقف "حزب الله" المتشدِّد بدوره والذي انتقل بعد خسارته معركة منع الحكومة من نزع الشرعية عما يسمى مقاومته، إلى معركة وقف تنفيذ هذا القرار، ولكنها معركة فاشلة مسبقًا وسلفًا ليس لأنّ القرار اتخِّذ لينفّذ ولا عودة عنه فحسب، بل لأن السلاح أصبح عاجزًا عن التأثير في أربعة مسارات أساسية:
عاجز أولًا عن استجرار الحرب مع إسرائيل، حيث كان يدمِّر لبنان من خلال مصادرته ورقة الصراع مع تل أبيب، فهذا الأمر انتهى، وقرار الحرب لم يعد بيده، وإسرائيل تمكّنت منه، وأقصى ما يقوم به على هذا المستوى عدّ قتلاه الذين يتساقطون يوميًا.
عاجز ثانيًا عن تعطيل عمل الحكومة، حيث أن خروجه منها لم يمنعها من اتخاذ قرارها والإصرار عليه، وبالتالي لم يعد باستطاعته تعطيل عمل الدولة ومسارها.
عاجز ثالثاً عن استخدام سلاحه في الداخل على غرار 7 أيار 2008، ويدرك أن أي محاولة من هذا النوع ستُقمع بالقوة، فضلًا عن تهيبه خطوة من هذا النوع في ظل الحصار الجغرافي والسياسي المطبق عليه.
عاجز رابعاً عن إقفال الطرقات، وقد حاول سابقًا إقفال طريق المطار التي عاد وفتحها الجيش بالقوة.
وعليه، لقد خسر "حزب الله" أربع أوراق أساسية كان يستخدمها لإبقاء لبنان تحت سيطرته وهيمنته، وهذا يعني أن سلاحه أصبح بلا فعالية ولا تأثير وغير قادر على تغيير الأوضاع ولا بل غير قابل للاستخدام، ويكفي أن تتعامل معه الدولة على غرار تعاملها مع جميع اللبنانيين، من دون تمييز ولا استثناءات ولا تسهيل مرور ولا تغطية أو غض نظر لتركيباته العسكرية والأمنية، وذلك من أجل ردعه ولجمه وإنزاله من مرتبة "أشرف الناس"، إلى مرتبة "مثله مثل الناس"، وعندها يخرج البلد من الاستقواء الميليشياوي، ويدخل في عدالة الدولة التي تحتكر وحدها القوة.
وقد انتقل "حزب الله" في فترة قصيرة من قوة تسيطر على لبنان وتستجر الحروب وتستخدم سلاحها وتعطِّل الحكومات وتُقفل الطرقات، إلى قوة شغب تثير اشمئزاز اللبنانيين، ولكن كيف ستنتهي هذه المواجهة، ومن سيتراجع، ومن سيتعب أولًا؟
شارل جبور - نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|