أزمات المنطقة وفقدان النفط دوره كسلعة استراتيجية
كتب العميد الدكتور غازي محمود :
في الوقت الذي كان يُتوقع أن يدفع دخول الولايات المتحدة الأميركية على خط الحرب الدائرة بين ايران وإسرائيل الى مزيد من التصعيد، سرّع هذا التدخل الاتفاق على وقفٍ لإطلاق النار بين المتحاربين، بعد أن سمحت الولايات المتحدة لإيران "بضربة جزاء" رداً على ضرباتها. وفي حين ارتفعت المخاوف من دخول الاقتصاد العالمي في مشهد ضبابي وسط غياب أي مؤشر على تسوية بين الأطراف، انقلب المشهد بسرعة قياسية، وبدلاً من إغلاق مضيق هرمز تم الاتفاق على هدنة بين إسرائيل وإيران باقتراح أميركي.
فمنذ الثالث عشر من حزيران تاريخ الاعتداء الإسرائيلي على ايران، تشهد الأسواق العالمية ارتباكاً لافتاً جراء تصاعد المواجهات بين الجانبين، تجلت في تقلبات أسعار النفط والغاز، وتذبذب أسعار الاسهم، واضطراب سلاسل الإمداد. الامر الذي يطرح التساؤلات عن مدى تأثر أسعار النفط بالتوتر المستجد بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، خاصة وأن النزاعات الأخيرة بدءاً من الحرب الاوكرانية الروسية عام 2022 مروراً بالعدوان على غزة ومن ثم لبنان عام 2024، تدل على تراجع تأثير توترات المنطقة على أسعار النفط وأسواقه العالمية.
وبعد أن ارتفعت أسعار النفط وبلغت قُرابة الـ 80 دولاراً وما نسبته 3% جراء اندلاع الحرب الإسرائيلية الإيرانية، سرعان ما انخفضت هذه الأسعار خلافاً لما كان يحصل مع كل توتر جيوسياسي في الشرق الأوسط حيث كانت تنتقل الأسعار الى مستويات جديدة، على غرار ما حصل مع حرب 1973 بين العرب وإسرائيل التي بلغ معها سعر البرميل 11 دولاراً بعد أن كان مستقراً عند معدل 2.32 دولار.
ومع انطلاق الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بلغ سعر البرميل قُرابة الـ 25 دولاراً، ليقفز الى 37 دولاراً مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980. كما ارتفعت أسعار النفط مع انطلاق الربيع العربي عام 2011 لتصل الى ما يُقارب الـ 106 دولارات، بعد تقلباتٍ حادة عرفتها الأسعار خلال العشرين سنة الفاصلة بين الازمتين.
وتسببت الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، بارتفاعٍ حادا في سعر برميل النفط، حيث سجل خام برنت 139 دولاراً للبرميل في اليوم التالي للحرب قبل أن يتراجع ويعود الى السعر الذي كان عليه في العام 2021 أي 70 دولاراً للبرميل. وذلك بسبب تباطؤ الاقتصاد العالمي وتوجه الدول الاوروبية الى زيادة اعتمادها على المصادر البديلة والطاقة النظيفة والمتجددة. مع العلم أن روسيا تُعد ثاني أكبر مصدر للنفط الخام والمصّدر الرئيسي للغاز الى أوروبا.
كما تسبب العدوان الإسرائيلي على غزة في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، بارتفاع متوسط سعر برميل النفط ليصل إلى 83 دولاراً، بزيادة بلغت نسبتها 14% عما كان عليه في العام 2022. في المقابل تأرجح سعر برميل النفط خلال العام 2024، حيث انخفض السعر خلال النصف الأول منه ليبلغ الـ 74 دولار تقريباً، وليرتفع مجدداً في مطلع النصف الثاني مسجلاً 81 دولاراً لوقت قصير ليعود الى الانخفاض خلال الربع الثالث من السنة ويبلغ الـ 75 دولاراً.
في المقابل، لم يُحافظ سعر برميل النفط على ارتفاعه إثر اندلاع الحرب الإسرائيلية الإيرانية سوى يومٍ واحد، حيث بلغ سعر البرميل 78.93 دولاراً، ليعود وينخفض السعر الى المستوى الذي كان عليه. في حين كانت كل من "GB Morgan" و"ANG" رجحتا أن يبلغ سعر برميل النفط ما بين 130 و150 دولاراً، جراء المخاوف من اتساع المواجهات، أما شركة "Potomac River Capital" فقد اكتفت بتوقع بقاء أسعار النفط عند مستويات مرتفعة.
أما تردد إيران بإغلاق مضيق هرمز انتقاماً من الضربات الأميركية لثلاث منشآت نووية إيرانية، فلم يكن حرصاً منها على عدم ارتفاع أسعار النفط وأسعار الشحن البحري، المرتفع أصلاً، أو منعاً لارتفاع الأسعار في الأسواق العالمية، بل حفاظاً على استمرارية تصدير نفطها الخاضع لعقوبات أميركية واوروبية، الى الصين المستهلك الأكبر للنفط الايراني وغيرها من الدول عبر مضيق هرمز. فإغلاق مضيق هرمز يتعارض مع مصالح إيران الاقتصادية اولاً ومصالح شركائها الاقتصاديين ثانياً.
وجدير بالذكر أن 30% من التجارة العالمية و20% من النفط الذي تنتجه كل من إيران والعراق والكويت والسعودية والإمارات والبحرين بالإضافة الى الغاز القطري يمر عبر هذا المضيق، متوجهاً إلى الصين، وإلى الهند واليابان وكوريا. الامر الذي رجح استبعاد فرضية إغلاق مضيق هرمز، وهدأ من مخاوف الأسواق العالمية ومنع تأرجحها لفترةٍ طويلة. وعزز هذا الاستقرار أيضاً توجه دول أوبك الى زيادة انتاجها واستعادة حصصها في الأسواق النفطية، بالإضافة الى ارتفاع حجم انتاج الدول غير المنضوية ضمن منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك).
كما أن تحول الولايات المتحدة الأميركية من دولة مستوردة للنفط الى دولة مصدرة له بعد طفرة النفط الصخري الذي اكتشفته، جعلها غير معنية بإغلاق مضيق هرمز إلا من الناحية العسكرية. في المقابل، تحرص الإدارة الأميركية على ألا ترتفع أسعار النفط في الأسواق العالمية من جهة، وتحث المستثمرين على القيام بمزيد من اعمال الاستكشاف والحفر، حيث يكرر الرئيس ترامب مقولته الشهيرة Drill baby drill، التي يحول دون تحقيقها أسعار النفط المنخفضة.
وبعد أن كانت التوترات الجيوسياسية تلعب الدور الأبرز في التأثير على أسعار النفط، نجد اليوم تأثير هذه التوترات يقتصر على إحداث تقلبات قصيرة الاجل. فعلى الرغم من استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك استمرار الحرب الاسرائيلية على غزة والعدوان على إيران، وما يُثيره ذلك من مخاوف حول استقرار المنطقة بأكملها، نجد أن ردة فعل الأسواق النفطية اقتصرت على ارتفاعٍ مؤقت ومحدود في أسعار النفط.
في المحصلة يكمن فقدان النفط لدوره كسلعة استراتيجية، في تحول الولايات المتحدة الأميركية الى دولة منتجة للنفط، ما يحول دون استخدامه ورقة ضغط في وجهها. كما أن زيادة دول أوبك لإنتاجها ودخول دول جديدة نادي الدول المنتجة للنفط يؤدي الى وجود فائض في العرض، في وقتٍ يُعاني الاقتصاد العالمي من تباطؤ في أدائه ما يتسبب بضعف الطلب. الامر الذي يُسقط صفة السلعة الاستراتيجية عن النفط على الرغم من دوره المحوري في الاقتصاد العالمي.
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|