إقتصاد

منحة العسكريين: مقاربة تفتقر للعدالة والرؤية الاصلاحية

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

كتب الباحث في الشؤون الاقتصادية غازي محمود:

في خطوة أثارت الكثير من الجدل والتساؤلات، لجأت الحكومة في اجتماعها أواخر شهر أيار الفائت إلى ربط تمويل المنحة المالية للعسكريين، في الخدمة الفعلية وفي التقاعد، بزيادة الرسوم على المحروقات. هذا الربط، الذي جاء مفاجئاً ومخالفاً للتصريحات والوعود الرسمية السابقة، إن لجهة قيمتها أو لجهة توقيت دفعها، يعكس مرة أخرى مقاربة مالية قصيرة النظر، تتجاهل العدالة الاجتماعية وتفتقر إلى أية رؤية إصلاحية حقيقية.

فبدلاً من إقرار منحة للعسكريين في الخدمة بقيمة 20 مليون ليرة كما سبق تداوله في الاعلام، اقتصر المبلغ على 14 مليوناً فقط، مع تأجيل الدفع من مطلع حزيران إلى شهر تموز المقبل. كما أن المنحة بحد ذاتها لا تُقارن بالعطاءات التي حصل عليها موظفو القطاع العام سابقاً، ما يجعلها مجرّد تسوية محدودة لا ترقى إلى مستوى التعويض المستحق، وتُبقي على رواتب العسكريين عند ادنى مستوى، بل تزيد من الفجوة القائمة في الرواتب والمعاشات التقاعدية.

ويقتصر ما يتقاضاه المتقاعدين، بعد احتساب العطاءات المشار اليها اعلاه، على قُرابة الـ 40% مما يتقاضاه من هم في الخدمة من موظفي القطاع العام. الامر الذي يُشكل إجحافاً بحقوق المتقاعدين البديهية، ومخالفة واضحة وصريحة لقانون الدفاع الوطني ونظام التقاعد والصرف من الخدمة اللذين حددا حق المتقاعدين بـ 85% من أساس الراتب الأخير الذي كانوا يتقاضونه في الخدمة. 

وبينما كان المطلوب من إقرار المنحة الاجتماعية مساواة العسكريين في الخدمة وفي التقاعد بباقي موظفي القطاع العام الذين سبق لهم أن حصلوا على بدلي الإنتاجية والمثابرة، جاءت المنحة لتبين إصرار الحكومة على عدم إنصاف العسكريين في الخدمة والتقاعد وتجاهل حقوقهم. الامر الذي يُضعف الثقة بالأداء الحكومي، ويكرّس الشعور بالإحباط لدى من بذلوا زهرة شبابهم في خدمة المؤسسات العسكرية والأمنية. كما تُثير طريقة إقرار المنحة تساؤلات حول انعكاساتها السلبية الاجتماعية والاقتصادية وغياب رؤية إصلاحية متكاملة.

منحة اجتماعية تتأكلها الرسوم الجديدة 

إضافة إلى الإجحاف في قيمة المنحة، فإن طريقة تمويلها تطرح إشكاليات أكثر عمقاً. فالرسوم على المحروقات هي ضريبة غير مباشرة تطال جميع شرائح المجتمع دون تمييز، لكن عبئها هو اكبر على الفئات ذات الدخل المحدود، وتكون الحكومة بإقرارها زيادة هذه الرسوم قد أعطت بيد لتأخذ باليد الأخرى. فكل ارتفاع في سعر صفيحة البنزين أو المازوت يُترجم تلقائياً تضخماً في أسعار السلع والخدمات، بدءاً من النقل العام، مروراً بالتدفئة والطاقة، وصولاً إلى السلع الاستهلاكية والغذائية. وتكون النتيجة تآكل إضافي لقدرة المواطن الشرائية، وخصوصاً أولئك الذين لا تشملهم المنحة أصلاً.

انعكاسات سلبية على الاقتصاد 
كما أن تمويل النفقات الجارية عبر فرض رسوم على السلع الاستهلاكية، كالرسوم على المحروقات، يؤدي إلى آثار انكماشية، بخاصة في اقتصاد يعاني أصلاً من ركود مزمن. فكل زيادة في الكلفة التشغيلية للمؤسسات والشركات، ستؤثر على قدرة هذه الشركات على توسيع الإنتاج والتوظيف والاستثمار وقدراتها التنافسية في الأسواق الخارجية، ما ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي وفرص العمل. كما تجعل السوق المحلية أقل جذباً للمستثمرين المحليين والأجانب، نظراً

لارتفاع تكاليف التشغيل وتراجع الحركة التجارية والاستهلاك المحلي جراء استنزاف القدرة الشرائية للمواطنين. 

مقاربة مالية تفتقر الى رؤية إصلاحية 
لا تقتصر تداعيات ربط تمويل المنحة المالية بزيادة رسوم المحروقات على انعكاساته المباشرة، بل تكمن خطورته الأساسية في كونه مؤشراً على غياب رؤية إصلاحية شاملة وطويلة الأمد. ففي ظل الحاجة الماسّة إلى إصلاح هيكلي للقطاع العام، وترشيد الإنفاق، وتفعيل أدوات الجباية، وتوسيع القاعدة الضريبية، وتعزيز آليات مكافحة التهرب الضريبي والهدر والفساد، تلجأ الدولة إلى خيارات آنية وسهلة التنفيذ كفرض ضرائب ورسوم على السلع الحيوية، في حين تُهمل إجراءات أكثر عدالة وجدوى كفرض الضرائب على الأملاك البحرية، وتُغضّ الطرف عن المعالجة الجذرية لمسبّبات الأزمة المالية الراهنة.
خاتمة
إن اعتماد الحكومة نهج المعالجات الموضعية، عبر تحميل المواطنين تبعات مالية إضافية لتمويل منح مجتزأة، لا يؤدي سوى إلى تعميق الاختلالات الاجتماعية وتوسيع الفجوات بين الفئات، من دون أن يسهم في حل مستدام للأزمة. الامر الذي قد يُبرر الطعن المُقدم من البعض بالقرار امام مجلس شورى الدولة، لتجاوزه حد السلطة بحسب تعبيرهم.

إلا أن ما لا يُمكن تبريره هو أن الطعن في حال قبوله قد يؤدي الى الحؤول دون دفع المنحة، في حين أن قيمتها لا تفي سوى بجزء ضئيل مما يحتاجه فعلياً العسكريون لعيش حياة كريمة بعد أن اضمحلت الرواتب والأجور لتبلغ حدود الـ %20 مما كانت عليه قبل الازمة لمن لا يزالون في الخدمة الفعلية، فيما هي ادنى لأولئك الذين أحيلوا على التقاعد.

المطلوب اليوم ليس مجرّد حلول ظرفية ترتكز على فرض مزيد من الأعباء، بل تصحيح للرواتب من خلال وضع سياسات مالية متكاملة قائمة على العدالة، واستراتيجية وطنية شاملة تُعيد ترتيب الأولويات، تحترم حقوق العسكريين والمتقاعدين، وتؤسّس لإصلاح مالي واقتصادي حقيقي يُعيد الثقة بالسياسات العامة، بدلاً من تعميق الإحباط وتكريس غياب الثقة بالدولة. فالثقة لا تُستعاد بالوعود، بل بالأفعال.
 

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا