بلديّة بيروت: التّغيير ضُرب من بيت أبيه
طُويت صفحة الانتخابات البلدية في بيروت بفوز تحالف الأضداد السياسية المكوّن من أحزاب تمثّل عصب النظام الطائفي التقليدي، بعد اتّخاذها عنوان حماية المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في العاصمة. في حين ضيّعت قوى الاعتراض التي ترفع شعار التغيير، والمشرذمة في أكثر من لائحة كالعادة، فرصةً منحَها إيّاها الاستياء العامّ من الائتلاف الهجين والمستغرب، فتلقّت هزيمة وتراجعت إلى الخلف مكتفية بكلّ تلاوينها بسبعة في المئة من أصوات المقترعين، بعدما كانت نجمة الانتخابات البلدية 2016 والظاهرة الأبرز في الانتخابات النيابية لعام 2022، وأمل الشباب والأكثرية الصامتة منذ انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019.
بنسبة اقتراع عامّة متدنّية لم تتجاوز 21 في المئة، لم يكن صعباً على تحالف الأحزاب التقليدية في لائحة “بيروت بتجمعنا” أن يتقدّم على منافسيه باحتفاظه بقدرته على تجييش بلوكاته الانتخابية الصلبة وترجمتها أصوات صمّاء في صناديق الاقتراع. كان يكفي أن تضمن 40 في المئة من أصوات المقترعين لا الناخبين كي تستأثر بالمقاعد البلديّة، ذلك أنّ الستّين في المئة الباقية توزّعت على نصف دزينة من اللوائح والمرشّحين المنفردين، بينهم لائحتان للتغييريّين هما “بيروت مدينتي” و”مواطنون ومواطنات في دولة”، إضافة إلى لائحة “أولاد البلد” لجمعيّة المقاصد الحائرة بين التقليد والتغيير بعدما تخلّت عن دورها الوطني الجامع والكبير طمعاً بطموحات بلديّة صغيرة، في حين حصلت اللائحة التقليدية الثانية “بيروت بتحبّك” على 24 في المئة من الأصوات ساهم في جذبهم:
1- اسم رئيسها محمود الجمل الذي تمكّن من خرق الدرع الحزبي.
2- اعتراض رهط كبير من السنّة البيارتة على توليفة “بيروت بتجمعنا” وتحكّم بعض الأحزاب “الضالّة” و”المغضوب عليها” بنسج تركيبتها، وأضف نكايات تيّار المستقبل المحروم من “جنّة” الحياة السياسية الجديدة.
أدهى من دعاة التّغيير
بعشرين في المئة فقط من عموم الناخبين البيارتة، لا يمكن الإتيان بالأفضل وإحداث التغيير الموعود. الثمانون في المئة الباقون من أصل 515 ألف ناخب بيروتي من كلّ الطوائف، فضّلوا الجلوس على “الكنبة” على الذهاب إلى مراكز الاقتراع، لا يتحمّلون وحدهم المسؤولية عن النتيجة، حتّى لو جعلت الديمقراطية الانتخاب واجباً وطنيّاً. هؤلاء أعياهم اليأس والإحباط والتجارب وفقدوا الأمل بإحداث التغيير المنشود، ولم يبخلوا بالتضحية والعطاء عندما لاح بصيص أمل في شوارع بيروت، ولم يتوانوا عن منح فرصة استثنائية لقوى التغيير من أجل إحداث التغيير. شكّل وصول 13 نائباً من دعاة التغيير دفعة واحدة تحت قبّة البرلمان استثناءً في التاريخ النيابي اللبناني، لكنّ حصادهم السياسي العامّ في 3 سنوات لم يشجّع إلّا عشرة في المئة من الممتنعين على ترك “الكنبة” يوم الاستحقاق البلدي. لو نجحوا في ذلك لتغيّرت النتائج رأساً على عقب.
ليس أركان الأحزاب الطائفية التقليدية عباقرة ولا خارقي الذكاء، لكنّهم أدهى من بعض دعاة التغيير. تلك الأحزاب تناست خلافاتها وفعلت ما تفرضه مصلحتها، وأنجزت عملها، ونجحت في الحفاظ على مكتسباتها واحتكار الفوز والسلطة، بينما أحجمت قوى التغيير عن فعل واجبها، وتلهّت بمقاتلة بعضها بعضاً على جنس الملائكة، وجعلت الاستعراض التلفزيوني بديلاً عن الالتصاق بناسها والشارع، فزادت الإحباط واليأس. أولئك يعرفون البلد بالتوارث عن ظهر قلب، لكنّ أصدقاءنا دعاة التغيير عرفوا شيئاً وغابت عنهم أشياء. أولئك أسياد اللعبة ويضعون شروطها. في المقابل لم تظهر “مشاريع البدائل” سوى الإذعان لشروط اللعبة والانصياع لها. ومن يضع شروط اللعبة يكسب دائماً. أولئك أصحاب خبرة طويلة في فنّ من أين تؤكَل الكتف، وهؤلاء عندما اشتدّ عودهم أكل بعضهم أكتاف بعض.
أداة تجميل
نسي أصحابنا التغييريون أنّ فكرة التغيير والتوق إلى الخلاص من المتسبّبين بإيصال البلاد إلى ما وصلت إليه من مصائب وكبائر، كانت هي الرافعة الأساسية التي حملتهم إلى مجلس النواب. أغراهم البريق الإعلامي وأضواء الكاميرات والتصفيق، فظنّوا أنّ شخوصهم الكريمة وإمكاناتهم الفردية “الفذّة” هي التي أبهرت الناخبين بهم ودفعتهم إلى اختيارهم. وطغت الأنا وضاعت الجماعة. ضيّع غرور رهط منهم والفوقيّة والتعالي فرصة التلاقي وبناء كتلة نيابية وجبهة وطنية متراصّة ومتماسكة تشمل كلّ الأطياف اللبنانية والمناطق وتشكّل حضناً للشباب الواعد والقامات الفكرية والعلمية والنقابية التوّاقين إلى لبنان أفضل، فيما البلد بأمسّ الحاجة إلى رؤية جسم سياسي واعٍ ونظيف يحمل قضايا الناس المنكوبين والوطن الجريح، ويقدّم نموذجاً مغايراً للحزبيّة والتنظيم والوطنيّة وبرنامج عمل إنقاذيّاً واضح المبادئ والخطوط العامّة يحمل إجابات على هواجس الرافضين الانقياد نحو المجهول.
على العكس من ذلك، حال تشتّت هذه القوى وسوء أدائها دون ظهور مشروع بديل جدّي لقوى السلطة، لا بل شكّل وجودها “أداة تجميل” للدولة الطائفية العميقة لبيعها في المحافل الدولية كـ”بضاعة مربحة” لديمقراطيّتهم اللبنانية الفريدة ودليل على التسامح ووجود الرأي الآخر.
أخطأ التغييريون أيضاً في عدم التمييز بين الاعتراض والتغيير. تعاملوا مع الأوّل الأسهل والأكثر شعبويّة، وأخذوا من الثاني الاسم وتجنّبوا متطلّباته التي تحتاج إلى عمل دؤوب وصبر ونضال وتضحية. لا يحدث التغيير السياسي بقدرة قادر ولا يهبط من السماء، بل يتطلّب عملاً منظّماً وممنهجاً ووضوحاً في الرؤية والخطاب المقنع والقدرة على مقاومة الضغوط والمخاطر بكلّ أشكالها وكسب الدعم. لا تحبّذ الناس الحركات العشوائية، والمحاولات العفوية تفشل ولا تدوم. التنظيم يمنح الصدقيّة ويُظهر الجدّية مساعِداً على بناء قاعدة دعم شعبي وسياسي، والعمل المنظّم ضمانة لعدم انهيار الجهود عند أوّل انتكاسة.
نكسة الأحد البيروتيّ يمكن للتغييريّين تفادي تكرارها في الاستحقاق النيابي العام المقبل إذا ما أخذوا العبر من الدرس البلدي، وإلّا فسيكونون طبقاً دسماً في مطعم الجشع الطائفي.
أمين قمورية - اساس ميديا
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|