بلديات 2025... إقتراع وفرز من أيام "بندق بو فتيل"
في حين يعقد الرئيس الأميركي ترامب اتفاقات متطوّرة حول الذكاء الاصطناعي مع الدول الخليجية، يقف لبنان محشوراً في أقلام اقتراع بدائية تُكتب اللوائح فيها باليد، وتُشطب الأسماء بالقلم، وتُفرز النتائج يدوياً على ضوء الهواتف أحياناً، وتُعدّ الأصوات بالصراخ، وتُدوّن النتائج في سجلّات ورقية. في عصر التكنولوجيا، يتغنّى لبنان بإنجاز الاستحقاق البلدي ببصمة حبر على الإبهام. فهل هو إنجاز حقاً؟ أم انتخابات مسلوقة قُرّرت وأُعدّت وأُنجزت على عجل وبقيت متخلّفة عن مواكبة العصر بسنين ضوئية؟
التأخير في فرز نتائج الانتخابات البلدية في طرابلس كشف المستور، وصرخات رؤساء الأقلام أعلنت بالصوت المدوّي ما حاولت وزارة الداخلية تجاهله. والنتيجة، أن الانتخابات البلدية في لبنان، وبغض النظر عن شعاراتها الإنمائية وتدخّلاتها السياسية والطائفية وحماستها الشعبية، أثبتت أن لبنان لا يزال يعيش في زمن بائد خارج حدود التحوّل الرقمي، في انفصام تام عن الواقع الذي يعيشه شبابه والعالم أجمع.
في الثامن من شباط، استلمت الحكومة الجديدة مهامها. وفي الرابع والعشرين من آذار أعلنت عن مواعيد إجراء الانتخابات البلدية التي بدأت أولى جولاتها في الرابع من أيار 2025. بسرعة وبدون مقدّمات بدأت التحضيرات. لم تأخذ في الاعتبار رؤساء الأقلام الذين نسوا كيفية التعامل مع النظام الأكثري بعد مضيّ تسع سنوات على آخر مرة مورس فيها. ووفق العميد المتقاعد إلياس خوري الذي تولّى الإشراف سابقاً على العملية الانتخابية، وفي اتصال لـ «نداء الوطن» به خارج لبنان، دُرّب هؤلاء على النظام النسبي في العام 2018 بشكل سريع وانتُقدت وزارة الداخلية حينها بسبب الفجوات الكثيرة التي ظهرت فعملت على تحسين الأمور قليلاً في العام 2022 لتعود اليوم وتقذف برؤساء الأقلام والكتاب في خضمّ النظام الأكثري دون أي تدريب أو تأمين تقنيات حديثة لهم. في العام 2016، تضمّنت الصناديق التي سلّمت لرؤساء الأقلام دليلاً ورقياً لا تزال النسخة الرقمية منه موجودة على موقع الوزارة ليعرف هؤلاء كيفية التعامل مع العملية الانتخابية بكل تفاصيلها من الاقتراع إلى فرز الأصوات. اليوم لم تحمل الصناديق هذا الدليل. ومن دون تدريب يذكر، بدا رؤساء الأقلام جاهلين كيفية ممارسة مهامهم بشكل صحيح وعلى الأخص كيف يتممون الفرز الصحيح قبل إرساله إلى لجان القيد.
لا شاشات في أقلام الاقتراع عند الفرز لرؤية اللوائح، وحتى أسماء المرشحين لم تكن مطبوعة على جداول. وكان على رئيس القلم كتابتها باليد، في حين كان يمكن طبعها مسبقاً وإضافتها إلى المحضر الموجود في الصندوق لتسهيل عملية الفرز، أو استخدام نظام الـ Excel على الكمبيوتر لتسجيل النتائج. كل ذلك لم يكن موجوداً، وتوجّب على رؤساء الأقلام كتابة الأسماء بالقلم وإضافة الأرقام أمام كل اسم ثم جمعها بواسطة الآلة الحاسبة، وانتظار المندوبين غير المدرّبين حتى يسجّلوا كل اسم. وحين نعلم أن في طرابلس مثلاً ترشح 125 اسماً، يمكن أن ندرك ثقل العملية التي ألقيت على أكتاف رؤساء الأقلام وسبّبت تأخّر النتائج. ويؤكّد مصدر مطلع: «لقد كان على الوزير أن يقدر أن انتخابات بلدية في مدينة كبرى كطرابلس تحتاج إلى كادر إداري كبير ولجان قضائية أكثر».
غرائب وعجائب الانتخابات البلدية
لم تكن اللوائح المستخدمة في الانتخابات البلدية لوائح مقفلة لا يمكن تعديلها أو إضافة اسم إليها أو شطب اسم منها كتلك التي استخدمت في الانتخابات النيابية، بل كانت لوائح مشرّعة على كل الاحتمالات. قصاصات ورق هجينة قد تحوي ما تحويه من أسماء (أو آراء وطق حنك) يمكن تعليمها بالشطب أو إضافة أسماء مكتوبة باليد. ويمكن للمقترع الذي لا يحمل لائحة مطبوعة أن يعمد إلى كتابة الأسماء بخط اليد على قصاصة ورق مع ما يتطلّبه ذلك من وقت داخل العازل لا سيّما بالنسبة لكبار السن، وعلى رئيس القلم أن يفكّ طلاسم الخط لمعرفة اسم المرشح وتسجيل نقاطه.
ومن غرائب ما شهدته الانتخابات البلدية، أنّ بعض الأقلام لم تتوافر فيها القرطاسية اللازمة من أقلام وأوراق وغيرها بعد أن تخلّف محافظ الشمال المقال عن تأمينها وفق ما أفادنا به أحد رؤساء الأقلام. كما شهدت بعض الأقلام الصغيرة في المناطق البعيدة اقتراعاً للموتى رغم بصمة الحبر بعد أن تمّ ترتيب الأمر مع رؤساء الأقلام! ومن غرائب الفرز، أن أحد المرشحين في طرابلس نال صفر أصوات في حين أنه أدلى بصوته لنفسه وكذلك فعلت عائلته، ولكن حين يُعرف أن بعض رؤساء الأقلام في طرابلس ولشدة الإرهاق الذي أصابهم عند فرز النتائج تغاضوا عن تسجيل أسماء ونقاط المرشحين الذين نالوا أصواتاً قليلة بالنسبة لغيرهم. الأمر كان من الممكن تفاديه لو كانت عملية الفرز ممكنة أو إلكترونية لا تسمح بحدوث أخطاء أو تلاعب بالنتائج أو حتى بوجود شاشة تلفزيون يمكن للمندوبين المدرّبين من خلالها تقصي الأسماء المفرزة. هذا عدا انقطاع التيار الكهربائي أثناء الفرز واضطرار رؤساء الأقلام للعمل في بعض الأحيان في غرف صغيرة لا تكاد تتّسع للمندوبين وأبوابها لا تقفل، ليتمّ بعدها نقل الصناديق باليد إلى لجان القيد.
موظفون بلا عدة
في طرابلس، أردنا النبش أكثر في خفايا العملية الانتخابية، فاستعنا بالصحافي جوزيف وهبي وهو من المخضرمين الذين واكبوا عدة عمليات انتخابية، فرسم خريطة واضحة لما حصل في طرابلس قائلاً :«إن الفوضى الإدارية سادت الانتخابات البلدية من الوزير الجديد الذي لا خبرة سابقة له في الانتخابات، إلى العدة القديمة، مروراً بالمحافظ الفاسد ووزارة التربية وصولاً إلى رؤساء الأقلام. فقد قُدمت إلى وزارة الداخلية داتا انتخابات 2022 التي تضم أسماء أساتذة أحيلوا إلى التقاعد أو هاجروا أو حتى توفوا، ولم يطّلع وزير الداخلية عليها» وفق ما يقول وهبي «ما خلق إشكاليات كبيرة في أعداد رؤساء الأقلام وتواجدهم». الأمر ذاته، يؤكده أحد هؤلاء الذي يكرر أن الداخلية لم تطلب داتا محدثة من وزارة التربية. ومن التحق من رؤساء الأقلام لم يكن مؤهلاً كفاية للسير بعمليات الفرز، كما عانى من تعب وإرهاق نتيجة عوامل متعددة. ويؤكد أكثر من مصدر طرابلسي أن محافظ الشمال لم يمنح تراخيص كافية للمندوبين ما اختصر عددهم وأثّر بشكل مباشر على العملية الانتخابية وعملية فرز الأصوات مع عدم تواجد فاعل ومكثف للماكينات الانتخابية ومندوبيها كما جرت العادة في الانتخابات السابقة.
معاناة رؤساء الأقلام
ما شهدته الانتخابات البلدية والاختيارية من فجوات تقنية ونقص في العدة المطلوبة وفي التدريب، لم يوازه فداحة إلّا المعاناة التي عاشها رؤساء الأقلام يوم الانتخابات، وفي اليوم الذي سبقه. ويخبر م. ع وهو من الأساتذة الذين استدعوا ليكونوا رؤساء أقلام أن الأمر كان أشبه بكابوس حيث استدعي مثلاً أساتذة من الجنوب ليكونوا في طرابلس وآخرون من عكار ليكونوا في أقلام زحلة. وكان عليهم القدوم يوم السبت باكراً لتلقي الصناديق ومن ثم المغادرة والعودة يوم الأحد صباحاً لبدء عملية الاقتراع مع ما يستدعيه ذلك من كلفة مالية عليهم. بعضهم اضطرّوا للمبيت في سيّاراتهم لا سيّما أن الماكينات الانتخابية لم تحتضنهم، كما في أوقات سابقة. كما أن كلفة الحصول على غرفة للمبيت توازي ما ينالونه كبدل عن دورهم كرؤساء أقلام الذي يوازي 19 مليون ليرة أي ما يعادل 215 $ ومعظمهم لا يعرفون أشخاصاً ليؤمّنوا لهم المبيت في المنطقة التي فصلوا إليها.
لم يراع مبدأ تكليف كل رئيس قلم وفق منطقته ولم تحتسب كلفة التنقل والمبيت. لقد تمّ طلب الأساتذة بناء على داتا 2022 دون سؤال الأساتذة والتأكد من رغبتهم في المشاركة. وصلت ملفات استدعاء الأساتذة إلى مدارسهم عصر يوم الجمعة ومن أراد التخلّف من هؤلاء لم يُترك له مجال للاعتراض، ولم يستطع الاتصال بأي رقم لإعلان تخلّفه معرّضاً نفسه بذلك لعقوبات مسلكية. ولم يتلق الأساتذة المكلفون أي تدريب بل مجرد فيديو من الاتحاد الأوروبي حول كيفية فتح الصناديق وإغلاق الأوراق، فيما بقي التدريب على عمليات الفرز غائباً. وبسبب البعد الجغرافي، لم يتمكن بعض رؤساء الأقلام من الوصول باكراً سواء لتسلم الصناديق، أو حتى للبدء بالعملية الانتخابية التي تأخّرت بدورها.
شكّلت عملية الفرز كابوساً آخر لهؤلاء، ما اضطرّهم بعد نهار انتخابي طويل إلى قضاء الليل يفرزون يدوياً ويكتبون الأسماء والأرقام بخط اليد مع صفر مكننة. والمكننة هنا، لا يُقصد بها أدوات الذكاء الاصطناعي أو الماسحات الضوئية، بل مجرد طباعة الأسماء واحتساب النتائج على برامج الإكسل على الكمبيوتر. ويروي أحد رؤساء الأقلام في طرابلس، أن التعب أخذ منهم مأخذاً بحيث قام بعض رجال الدرك بمساعدتهم في عملية الفرز ليس لتغيير النتائج بل للإسراع فيها.
ألم يحن الوقت؟
في ظلّ كل إشكاليات الفرز اليدوي وانعكاساته السلبية التي تؤثر على مصداقية العملية الانتخابية وشفافية النتائج ألم يحن الوقت في لبنان لتحديث آليات الفرز وجعلها مواكبة للعصر كما هو معمول به في العديد من الدول العصرية؟
أحد خبراء التحوّل الرقمي يقدّم المقترحين الآتيين اللذين يمكن اعتمادهما :الأول، ما يعرف بالـ E VOTING أي استخدام أجهزة تصويت إلكترونية تعمل بالشاشات اللمسية أو عن بعد بواسطة الإنترنت حيث يتم اختيار اسم المرشح أو اللائحة وتخزن الأصوات مباشرة في قاعدة بيانات ما يؤمّن نتائج فورية ويقلّل من الأخطاء. لكن ذلك يتطلب تجهيزات قد تكون كلفتها عالية وتحتاج إلى وعي عند الناخبين.
أما الثاني، فيمكن من خلاله اعتماد أوراق اقتراع ورقية مصمّمة بشكل موحّد يقوم جهاز ماسح ضوئي scan بقراءتها وتسجيل النتائج مباشرة على برنامج معدّ لهذا الغرض ما يتيح سرعة قصوى في الفرز ونتائج خالية من الأخطاء البشرية. ويمكن هنا الاحتفاظ باللوائح الورقية كنسخة احتياطية للرجوع إليها في حال حدوث أي خلل إلكتروني. هذه الطريقة قد تكون الأنجح في لبنان شرط توافر الكهرباء والاتصال بالإنترنت بشكل دائم.
المصدر: نداء الوطن
الكاتب: زيزي اسطفان
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|