براغماتيّة الشّرع تُربك الدور التركي في سوريا..
ضاعف سقوط نظام بشّار الأسد شهيّة تركيا، لإعادة صياغة المستقبل السياسي والاستراتيجي والاقتصادي لسوريا، وتعزيز دور أنقرة الإقليمي، في الجغرافيا السياسية الجديدة للشرق الأوسط. تتجاوز رهانات تركيا في سوريا مسألة ضمان أمن الحدود، أو إضعاف المشاريع الكرديّة الانفصاليّة، إلى أهداف جيوسياسية تتعلّق بصراعات النفوذ مع الدول العربية وروسيا وإيران وإسرائيل، ومصالح اقتصاديّة متشعّبة، وأهداف أيديولوجيّة متّصلة بإحياء تيّار الإسلام السياسي.
سوريا المستقرّة نسبيّاً والمتوافقة مع تركيا توفّر فرصة ثمينة لأنقرة للتعاون مع الولايات المتّحدة في إطار محاربة الإرهاب وإدارة أزمة اللاجئين، مستفيدةً من تحسّن العلاقات مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعدما شهدت توتّراً كبيراً بسبب دعم واشنطن للميليشيات الكرديّة.
بموازاة ذلك تحرص تركيا، وهي تسعى إلى احتلال موقع اللاعب المركزي في سوريا، على عدم قطع العلاقات بالكامل مع روسيا، أو المبالغة في استعداء إيران، من خلال الحوار المفتوح مع موسكو بشأن التعاون الاقتصادي والعسكري ولو المحدود بين البلدين، وتفادي مواجهة مباشرة مع إيران.
إخراج الملفّ الكرديّ من التّمرّد المسلّح
يُفسِّر هذا السياق جانباً رئيسيّاً من مبادرة أنقرة السياسية لبناء تفاهمات سياسية مهمّة مع الأكراد، وصولاً إلى حلّ حزب العمّال الكردستاني، مع ما لذلك من انعكاسات على أكراد سوريا المرتبطين بالحزب الأمّ المنحلّ. ويُمهّد لمصالحة أوسع بين أنقرة والغرب ويزيد استقلاليّتها الاستراتيجيّة داخل حلف الناتو.
صحيح أنّ الشمال الشرقي السوري الذي يسيطر عليه الأكراد يظلّ القنبلة الموقوتة الأكثر تعقيداً في الحسابات الأمنيّة والاستراتيجيّة التركيّة، إلّا أنّ الحنكة السياسية التي مارستها أنقرة حتّى الآن، أخرجت الملفّ الكردي نسبيّاً من سياق التمرّد المسلّح إلى سياق المصالحة السياسية والاجتماعية.
دور سعوديّ مركزيّ
إلى ذلك، يبرز الدور السياسي العربي في سوريا، بقيادة المملكة العربية السعودية، ليكشف عن مزيج من التعاون الظاهري والتنافس الخفيّ بين أنقرة والرياض. يتّفق البلدان على دعم الحكومة الجديدة برئاسة أحمد الشرع وتقليص النفوذ الإيراني، ويتنافسان لتعزيز نفوذهما السياسي والاقتصادي. ولئن كانت تركيا تحتفظ بميزة ميدانيّة من خلال حضورها العسكري في الشمال ودعمها لفصائل “الجيش الوطني السوري”، وهو ما يجعلها لاعباً أساسيّاً في المعادلة الأمنيّة، إلّا أنّ الدور السياسي الحاسم للرياض في التوسّط مع واشنطن لرفع العقوبات الأميركية عن سوريا، عزّز موقع المملكة كوسيط سياسي حاسم وجعل منها رمزاً معنويّاً وسياسيّاً عملاقاً في وجدان السوريّين.
أخلّ هذا الرصيد المعنوي الكبير للسعودية برهانات تركيا الاقتصادية في سوريا. فأنقرة، التي تعاني اقتصاديّاً في ضوء نسبة تضخّم تجاوزت 50% في 2024 وانخفاض حادّ في قيمة الليرة، تسعى إلى معالجة هذا التعثّر عبر استغلال فرص إعادة إعمار سوريا والسيطرة على مواردها الاستراتيجيّة.
يشهد لذلك، استعجال الشركات التركيّة العاملة في مجال البنية التحتية، لتثبيت حضورها عبر ورش إصلاح وبناء شبكات الكهرباء وتأهيل الطرق في مناطق مثل إدلب وعفرين. وتُشرف تركيا على مناطق اقتصادية شمال سوريا، مثل رأس العين وتل أبيض، حيث تُدير الأسواق وتفرض رسوماً جمركية. وتسعى أنقرة إلى السيطرة على حقول النفط شمال شرق سوريا لتصديره أو بيعه، بالإضافة إلى أنّها تُفاوض لمدّ خطوط أنابيب عبر سوريا، مثل خطّ أنابيب الغاز القطري التركي، من أجل نقل الغاز إلى أوروبا، لتعزيز مكانتها كمركز طاقة إقليمي.
هشاشة الاقتصاد التّركيّ
بيد أنّ هذه الاستراتيجية تواجه مخاطر كبيرة بسبب هشاشة الاقتصاد التركي وافتقاره إلى متطلّبات تمويل المشاريع الضخمة، وهو ما يجعل تركيا تركّز على مكاسب قصيرة الأجل، من دون أفق واضح لتحقيق استدامة اقتصادية. وعلى عكس الرصيد المعنوي السعودي، بعد رفع العقوبات، تُثير السيطرة التركية على الموارد والأسواق استياء السوريين، الذين يرونها استغلالاً اقتصاديّاً، يذكّرهم بتاريخ مديد من الهيمنة التركيّة على بلادهم.
مع ذلك، فإنّ تركيا معنيّة بتحسّن الأوضاع الاقتصادية، وظروف الاستقرار في سوريا، بصرف النظر عمّن يقود الجهود لتحقيق ذلك، بهدف حلّ أزمة اللاجئين السوريّين، وما تشكّله من أولويّة سياسية داخلية كبرى لتركيا. سيخفّف تسهيل العودة الآمنة والطوعية لملايين السوريّين الموجودين حاليّاً في تركيا، الضغوط الاجتماعية والاقتصادية المحلّية بشكل كبير، وهو ما يعزّز مكانة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان السياسية ويرسّخ صورة إنسانيّة لتركيا على الساحة الدولية، فقدت الكثير من ملامحها بسبب أزمة اللاجئين.
مصالح أيديولوجيّة
إلى جانب المصلحة الاستراتيجيّة والأمنيّة، والمصالح الاقتصادية، لتركيا مصالح أيديولوجيّة في سوريا تتّصل بإعادة إحياء صورة الإسلام السياسي عبر نموذج جديد أقرب إلى النموذج الإردوغانيّ. فمن خلال دعم أنقرة لحكومة أحمد الشرع تطمح تركيا إلى إحياء النموذج السياسي الذي حاولت فرضه في أكثر من مكان خلال حقبة الربيع العربي، بما يتوافق مع مزاج القاعدة الشعبية الإردوغانية.
لكنّ هذا التوجّه، يصطدم بتحدّيات معقّدة بسبب الموقف البراغماتي الذي يعتمده الشرع، والذي كشف عن حوار غير مباشر مع إسرائيل، بموازاة تلميحات إلى احتمال انضمام سوريا إلى الاتّفاقات الإبراهيميّة، كما أشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب. تتناقض هذه المسارات السياسية مع خطاب إردوغان الحادّ تجاه إسرائيل، حيث قد يُنظر إلى دعم تركيا للشرع بأنّه أعجز من أن يمنع تطبيع العلاقات السوريّة الإسرائيلية، ويُعرّض إردوغان لانتقادات من قاعدته الشعبيّة. إلى ذلك، لهجة الشرع حيال غزّة والقضيّة الفلسطينية، خافتة ولا تتماشى مع الموقف الشعبويّ لإردوغان، وهو ما يشير إلى أولويّة الهمّ الوطني في خطاب الحكومة السوريّة الجديدة ويهدّد الخطاب الإردوغاني الإسلاموي بخطر فقدان الصدقيّة.
مواجهة النّفوذ الإسرائيليّ
تتّصل هذه التعقيدات، بتعقيدات أخرى تنطوي عليها واحدة من أبرز مصالح تركيا في سوريا، وهي توظيف النفوذ التركي لمواجهة النفوذ الإسرائيلي في الإقليم. لطالما سعى إردوغان، إلى استغلال التوتّرات مع إسرائيل، لتصوير بلاده كقوّة إقليمية مناهضة لإسرائيل، مع الحرص على تجنّب مواجهة عسكرية مباشرة معها.
بيد أنّ المفارقة أنّ إدانة تركيا للغارات الإسرائيلية على سوريا لم تتحوّل إلى مستوى الغضب الشعبي السوري والعربي والإسلامي الذي تطمح إليه أنقرة، تحديداً بسبب البراغماتية الرفيعة التي يتعامل بها الشرع مع هذا الملفّ، واضطرار تركيا إلى القبول بتوجّهاته، الأقرب في روحها إلى موجة السلام العربي الإسرائيلي المتنامية.
عليه، يبدو توظيف سوريا الجديدة في لعبة صراع النفوذ بين أنقرة وتل أبيب، محدوداً بالكثير من الحسابات المتناقضة، أبرزها الاقتصاد التركي الهشّ وغير القادر على تحمّل مواجهة مباشرة مع إسرائيل، ومخاطر إشعال أزمة بين أنقرة وحلف الناتو من بوّابة التصعيد مع تل أبيب، وموقف الشرع البراغماتي من ضرورة الحوار والتفاهم مع إسرائيل.
في المحصّلة، يبدو واضحاً أنّ تركيا، على الرغم من اندفاعها الاستراتيجي وأهدافها الطموحة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، تقف أمام معادلة معقّدة، تتداخل فيها عوامل اقتصادية هشّة، وتوازنات سياسية حسّاسة، ومنافسة إقليمية شرسة. وبالتالي، سيبقى مستقبل الدور التركي في سوريا مرهوناً بمدى قدرة أنقرة على التعايش مع حلول وسط تلجم اندفاعتها وتحِدّ من نفوذها.
نديم قطيش -اساس
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|