الشباب اللبناني... من هناء الأحلام إلى عناء الواقع
بات مستقبل الشباب اللبناني في مهبّ الرياح، إذ بينما تنشغل الطبقة السياسية بأزماتها وصراعاتها، هناك جيلٌ كاملٌ يذبل بصمت. شباب لبنان – الذي من المفترض أن يحمل مشعل الأمل والتغيير - يعيش أزمات متلاحقة وخانقة خصوصاً بعد الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية التي يتخبّط بها وطنه منذ سنوات عدّة. يجد شبّان وشابات الوطن أنفسهم تائهين في دوّامة البحث عن عمل يرقى إلى مستوى الشهادات الجامعيّة التي يحملونها والخبرات العمليّة التي اكتسبوها على مرّ السنين. شريحة أساسيّة تضع الدراسة الجامعيّة جانباً وتعمل بأجر زهيد لا يفي حقّ تعبها، من أجل البقاء فقط قرب أهلها وذويها.
"أعتقد أنّ تخصّصي في الهندسة الكهربائيّة يسعفني في عملي كميكانيكيّ"، يقول سامر بحسرة. ويتابع قائلًا: "لو كنت أعلم أنّ السيارات بانتظاري لما تكلّفت كلّ هذا العناء والوقت كي أحصل على شهادة مسجونة في إطار كما أصبحت الحال معي".
عُرِف لبنان في ستينات القرن الماضي بـ "سويسرا الشرق"، لكن أكثر من نصف سكانه باتوا يعيشون تحت خط الفقر، وفقاً لتقديرات البنك الدولي. إذ لفت في تقريره الأخير إلى "ارتفاع معدّل الفقر أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي وبنسبة تصل إلى 44 بالمئة تحت وطأة المشاكل المستمرّة". ففي ظلّ الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تتخبّط بها البلاد منذ العام 2019، تواجه الشباب في لبنان حواجز كثيرة. وباتت هذه الفئة أمام خيارين لا ثالث لهما: العمل بوظائف متواضعة ذات دخل زهيد للبقاء في ربوع الوطن، أو السعي الى الهجرة بحثاً عن مستقبل يحاكي طموحاتها وتطلّعاتها.
"أرفض الهجرة إلى الدول الأوروبيّة رغم أنّ خطيبي يعيش في السويد"، تقول دانا. وتضيف بصوت متهدّج: "لا أقوى على ترك أمي وحيدةً بعد هجرة إخوتي وعائلاتهم، إذ أفضّل العمل كمسؤولة عن الصندوق في أحد مطاعم بيروت بأجر لا يتخطّى الأربع مئة دولار شهريّاً على رؤية دمعة حزن تذرفها والدتي على فراقي".
وفي هذا السياق، أشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في تقرير صادر عام 2022 إلى أنّ "الأزمة في لبنان تُجبر الشباب والشابات، على نحو متزايد، على ترك التعليم والانخراط في عمالة غير رسمية وغير منتظمة والقبول بأجورٍ متدنية في سبيل البقاء على قيد الحياة ومساعدة أسرهم على مواجهة التحديات المتزايدة". وكانت ممثلة اليونيسيف السابقة في لبنان إيتي هيغينز قد اعتبرت أنّ "الأزمة تحرم فئة الشباب والمراهقين من عنصر الاستقرار الذي هو غاية في الأهمية في سنّهم، كونها تسلبهم حقهم في التعلّم والأحلام والمستقبل".
يعمل شربل في محطّة بنزين مقابل تسعين سنتاً في الساعة. يحمل هاتفه الخليوي ويقوم باحتساب راتبه، قائلًا: "سبعة دولارات يوميّاً في لبنان أفضل من الآلاف في الغربة". يصمت قليلاً ويتابع: "صديقي وأنا حصلنا على شهادة ماجستير في إدارة الأعمال، لكنّه تمكّن من الهجرة إلى كندا بفضل مساعدة أحد أقربائه، وها هو يعمل كسائق أجرة مضطراً أن يحتمل مشقّة البرد وشوق البعد عن أهله". تصل سيارة رباعيّة الدفع يقودها شاب في ربيع العمر، يحسم شربل بكلّ فخر الجدل خلال تعبئة خزّان الوقود: "إتبهدل ببلدي مش أحسن؟".
بالمقابل، تنتظر مريم، وهي أمّ في مقتبل العمر تأشيرة الهجرة إلى الإمارات العربيّة المتحدة، وتعتبر أنّ العيش في لبنان بات مستحيلاً، وتضيف: "لن أحرم ولديّ من تأمين مستقبل يليق بهما وبأحلامهما". كما تلفت إلى أنّ إجازتها في التعليم جعلتها تستعطي بضعة دولارات من المدرسة التي تدرّس فيها مادة الرياضيّات. وتنهي مريم حديثها بدمعة محبوسة في عينها قائلةً "أرفض أن يستيقظ أولادي ليلاً على أصوات القذائف في بلد يحرمنا أدنى حقوقنا الأساسيّة".
لبنان قد يشيخ إزاء هجرة شبابه؟
يشير الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين إلى أنّ معدّل الأجور في لبنان بات يتراوح بين مئتين وستمئة دولار شهرياً"، مردفاً أنّ "شبابنا يعملون في القطاع الخدماتي ويتوزّع 10 بالمئة منهم في المصارف، 30 بالمئة في قطاع المطاعم والفنادق و50 بالمئة يعملون في مجالات الصناعات الخفيفة".
ويضيف شمس الدين: "نرى غياباً للشباب اللبناني عن قطاع النقل والخدمات والبناء، إذ على سبيل المثال لا الحصر لا نجد لبنانيّاً يعمل على محطات البنزين إلا نادراً، وبالمقابل تفتح هذه القطاعات أبوابها لشباب من جنسيّات أجنبيّة مختلفة".
وفي إطار الحديث عن الهجرة، يلفت شمس الدين إلى أنّ "العام الفائت هاجر حوالى 150 ألف لبناني، 70 بالمئة منهم ينتمون لفئة الشباب، وإن استمرّينا بهذه الوتيرة سيكون الشعب هرماً في المستقبل القريب"، لكنّه شدّد على أنّه "إن تغيّرت هذه الوتيرة بالطبع ستتبدّل النتيجة". وأوضح قائلًا: "إذا استقرّ الوضع الاقتصادي وتحسّنت فرص العمل في لبنان بالطبع ستختلف النتائج، لكن إن بقي الوضع على حاله أو إن أصبح أكثر سواداً، قد ندخل مرحلة هرمة قريباً وسيكون علينا استحضار عمّال شباب من دول أخرى لاستمرار الأعمال خصوصاً في الصناعات الصعبة".
وإذ يشير شمس الدين إلى أنّ 600 ألف شاب لبناني قد هاجر منذ العام 2012 حتى اليوم، يعتبر أنّ "تحويل أموال اللبنانيبن العاملين في الخارج بات حاليّاً متنفّس لبنان شبه الوحيد في ظلّ الأوضاع الاقتصادية والأمنية الصعبة".
وكانت دراسة "للباروميتر العربي" صدرت العام الفائت بيّنت أنّ "38% من اللبنانيين يسعون إلى الهجرة، وغالبيتهم من حاملي الشهادات والمتعلّمين". وتضيف الدراسة عينها أنّ "58% منهم ينتمون إلى فئة عمرية تتراوح بين 18 و29 عاماً". أما الأسباب الرئيسية لهذه الرغبة فتتوزّع بين الظروف الاقتصادية المتردية (72%)، والمخاوف الأمنية المتصاعدة (27%)، بالإضافة إلى الفساد المستشري (24%) والقضايا السياسية (23%).
وتلفت تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 30% من سكان لبنان سيكونون فوق سن 65 بحلول العام 2050، ما يشكّل عبئاً اقتصادياً وصحياً هائلاً، ليصبح لبنان وطناً يخسر شبابه ليعيش فيه كبار السنّ، ما يهدّد فرصه بالنهوض من جديد.
الاستثمار بطاقات الشباب اللّبناني
يلفت الصحافي الاقتصادي أنطوان سعادة إلى "أنّنا خرجنا للتوّ من أزمة اقتصاديّة وماليّة ألمّت بنا منذ العام 2019 ولكنّ مفاعيلها ما زالت سارية حتى اليوم"، مضيفاً أنّ "الحرب الأخيرة على لبنان زادت في الطين بلّة، إذ كبّدته خسائر مباشرة وغير مباشرة على صُعد الإنتاج والصناعة والسياحة وغيرها".
ويرى سعادة أنّ "الحكومة الجديدة تحاول إخراج لبنان من القعر، خصوصاً أنّ الاقتصاد اللبناني ما زال يعاني من الانكماش"، مردفاً أنّ " الأجور الزهيدة لا يمكن أن تتحسّن إلا بفضل الاستثمارات المالية وولادة مشاريع جديدة في قطاعات الصناعة والفنادق والسياحة وغيرها". كما يؤكد أنّ "تفعيل الاستثمارات يقترن بالاستقرار الأمني وبعودة ثقة الخارج بلبنان"، مشيراً إلى أنّها "ما زالت غير كافية لامتصاص نسب البطالة المرتفعة أو حتى لتحسين الرواتب المتدنيّة".
ويعتبر سعادة أنّ "الطلب على العمل بات أكثر من العرض، ما يدفع بصاحب العمل إلى تقليل الرواتب كي يكسب أرباحاً إضافية ويدفع بالشباب اللبناني إلى البحث عن فرصهم في الاغتراب".
ويشدد الصحافي الاقتصادي على أنّ "الاستثمار بطاقات الشباب في لبنان يحسّن الاقتصاد بشكل أكبر مقارنةً مع الأموال التي يرسلها المغتربون"، موضحاً على سبيل المثال لا الحصر أنّ "بقاء الطبيب أو المدرّس في بلادنا يرفع مستوى القطاع الذي يعمل فيه، ما يستقطب الأجنبي لزيارة لبنان بهدف الاستشفاء أو التعلّم وبالتالي سيعمد هذا الزائر إلى صرف دولاراته داخل البلاد وتحسين الوضع الاقتصادي فيها".
ويختم سعادة حديثه قائلاً: "يجب العمل على الإصلاحات الجديّة لضمان ثقة الدول عبر تمتين الاستقرار الأمني لجذب رؤوس الأموال وضمان الاستثمارات الخارجية، ما يحدّ من هجرة الشباب وتأمين فرص عمل تليق بهم وبشهاداتهم في وطنهم الأم".
الصحة النفسيّة في خطر!
يعيش الشباب اللّبنانيّ اليوم أزمة نفسية خانقة، إذ خلف الوجوه المبتسمة على "إنستغرام"، قلوب مثقلة بالحزن والضياع والخوف من المجهول. وفي هذا السياق، تؤكد الأخصائية في علم النفس العيادي ساندي عمانوئيل أنّ "الاستقرار العاطفي مهمّ جداً في حياتنا كأفراد، خصوصاً أنّ مرحلة المراهقة والشباب هيّ الأدقّ في عمر الإنسان في ظلّ الانتقال من مرحلة إلى أخرى بيولوجيّاً، سيكولوجيّاً، عاطفيّاً وعمليّاً. هذا بشكل عام، فكيف الحال إذاً مع فئة عمريّة شبابيّة تواجه تحديّات صعبة يوميّاً؟". كما تعتبر أنّ "الشباب اللبناني لا يشعر بالأمان وقد يذهب إلى التضحية بأحلامه وطموحاته والانسلاخ عن أهله كي يبدأ مشوار حياته".
وتضيف عمانوئيل أنّ "اللبناني يعيش مرحلة عدم الاستقرار بدءاً من الأزمة الاقتصادية في العام 2019، مروراً بفيروس كورونا والتكيّف مع نظام حياتيّ جديد ومختلف، ووصولاً إلى انفجار الرابع من آب الذي خلّف لدى اللبنانيّين خوفاً من انهيار الأرض التي يسيرون عليها في أيّ لحظة"، مؤكدةً أنّ "فئة الشباب هي الأكثر تأثراً بالأوضاع الصعبة كونها تسعى إلى تأمين مستقبلها وتحقيق طموحاتها".
وتوضح أنّ "شبابنا يعانون من "اضطرابات نفسيّة متعدّدة الأوجه تظهر معالمها في استسلامهم للاكتئاب واليأس، حيث يزدادون انطوائيّة أو عدوانيّة، فضلاً عن تفتّت شعورهم بذاتهم وعدم الشعور بالانتماء لمحيطهم"، لافتةً إلى أنّ "التشتت الذهني نتيجة عدم تحقيق الذات في ظلّ قلّة الوظائف والأجور المتدنيّة وارتفاع الأعباء المادية دفع ببعض الشباب للوصول إلى حالة الإنهيار النفسي والجسدي".
وتشير عمانوئيل إلى أنّ "نسبةً كبيرة من الشباب تتخبّط في مشكلة "الاحتراق النفسي" أو Burning out قبل الذهاب إلى العمل، فتعاني من النسيان، آلام الرأس، أوجاع الجسم والعضلات، دقّات القلب السريعة ووصولاً إلى الغثيان"، محذّرةً من الدخول في مرحلة "الاضطرابات ما بعد الصدمات وبالتالي وضع الجهاز العصبي في حالة تأهّب طوال الوقت".
وتشدّد عمانوئيل على ضرورة "تعزيز حملات التوعية للشباب اللبناني كي يتمكّن من الحفاظ على صحّته النفسيّة واجتياز العقبات الحياتيّة بأقلّ ضرر ممكن".
يواجه الشباب اللّبناني عقبات عدّة فهل سيتمكّن من تخطّيها وتحقيق ذاته بحسب هرم ماسلو، أم سيبقى استقراره النفسي والمالي مرتبطاً بالتخبّطات التي تعصف ببلاده؟
روي أبو زيد
نداء الوطن
انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب
تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.
انضم الآنشاركنا رأيك في التعليقات | |||
تابعونا على وسائل التواصل | |||
Youtube | Google News |
---|