المجتمع

سيناريو بيئي كارثي ينتظرُ لبنان.. الأرضُ تتغير

Please Try Again
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

تشهد مناطق واسعة في الأقضية الجبلية والساحلية موجة قطع منظّمة للأشجار قبيل موسم الشتاء. أعمال القطع تجري ليلًا وفي ساعات الفجر الأولى، مع نقل الأخشاب بواسطة شاحنات بعضها من دون لوحات أو بترقيم مطموس. في المقابل، تكتفي وزارة البيئة في الغالب بنشر صور "بعد الواقعة" على منصّاتها، وهنا، فإن المقصد يتلخص بأنّ الفجوة بين زمن المخالفة وزمن الاستجابة تبقي الغابة مكشوفة وتُسرّع تدهور الغطاء الشجري. التصحّر في لبنان يظهر في تراجع الغطاء النباتي وتدهور التربة لا في تكوّن صحراء رملية، فحلقته تتغذّى من ثلاثة مسارات مترابطة: حرائق الصيف التي تترك الأرض عارية، بالاضافة إلى الاعتداءات الاسرائيلية المتواصلة التي تعرّي أحراج الجنوب، قطع الخشب الخريفي الذي يزيل ما تبقّى من تماسكٍ للتربة، والتوسّع العمراني والمحافر التي تفكك الممرات البيئية. النتيجة المباشرة هي فقدان "الإسفنج الطبيعي"الذي يحبس مياه الأمطار. فمع أولى العواصف، يتزايد الجرف السطحي ويتراجع تسرب المياه إلى المخزون الجوفي.

سوق الحطب بات مسارًا اقتصاديًا ثابتًا لا ظرفيًا. السلسلة تبدأ بمشغّل القَطعٍ في السفوح النائية، مرورًا بوسيط النقل والتخزين، وتنتهي بالبيع بالتجزئة للمنازل. في معظم الحالات لا تُرفق الشحنات بفواتير منشأ أو إشعارات تفصيلية بنوع الخشب ومصدره، وهنا تكمن النقطة الأساسية التي من شأنها أن تحدّ من ظاهر "تجارة الحطب غير الشرعية"، والتي تؤدي إلى غياب التتبع، وهذا ما يسمح بتدوير الأخشاب المقطوعة من أحراج محمية أو من مواقع متضررة من حرائق، تحت عنوان "تنظيف".
 
الرقابة اللاحقة بصورٍ ومنشورات لا تنوب عن تطبيقٍ مُسبق. المطلوب آليات ضبط سابقة للمخالفة: تحديث أسبوعي لخرائط "النقاط الساخنة"، تجهيز دوريات مشتركة بين الوزارة والقوى الأمنية والبلديات في مواسم الذروة، وتكليف فرق مسح ميداني تتتبع مسارات الشاحنات من مواقع القطع إلى نقاط التجميع. كما يقتضي الأمر اعتماد لوائح منشأ تُنشر علنًا وتُطبّق على البائع والمشتري معًا. 


دور البلديات أساسي في سدّ الفجوة التنفيذية. يمكنها حصر مخازن الحطب المرخّص لها داخل نطاقها، منع البيع على قارعة الطرق، فرض إبراز فواتير منشأ عند التخزين والبيع، وتلقي بلاغات السكان عبر خط ساخن موحّد مع تحديد الموقع. الاستجابة خلال ساعات تقلّص هامش المقطّعين وتغيّر نمط النشاط الليلي على أطراف الأحراج. كما يمكن للبلديات اشتراط تراخيص نقل خاصة لشحنات الحطب داخل نطاقها.
 
الملف يرتبط مباشرة بموسم الحرائق. المواقع المتضررة من النيران تتحول في الخريف إلى مصدر سهل للأخشاب بذريعة "رفع الأخشاب الميتة". أي عمل في الغابة المحروقة يجب أن يخضع لخطط استعادة معتمدة، تتضمن تقييمًا بيئيًا ومنهجية نقل محدودة تمنع دهس التربة، وجدولًا لإعادة التشجير بأنواعٍ أصلية. السماح بالوصول العشوائي إلى المواقع المحروقة يبدّد فرص الاستعادة ويرفع مخاطر الانجراف خلال الشتاء.على المستوى الإجرائي، تحتاج وزارة البيئة إلى حزمة أدوات عملية تتجاوز التوثيق: أوامر ضبط استباقية بالتنسيق مع النيابات العامة، تفويض حرّاس أحراج بأعداد كافية وتوفير العتاد والغطاء القانوني، واتفاقيات مع الجامعات لإنتاج طبقات خرائط شبه آنية لقطع الأشجار والحرائق باستخدام الاستشعار عن بعد. والفكرة تتجلى بأنّ هذه ليست شعارات، بل خطوات ضرورية تجعلنا نتفادى الأزمة الأكبر ألا وهي التصحر. ففي الوقت الذي تتحول الصحارى في بعض البلدات إلى محميات طبيعية تضم ملايين الأشجار، من غير المقبول بتاتا أن يفقد لبنان هذه الميزة، ولو أكلت الحرائق الأحراج، ولو جفت المياه، فما يأتي بعد هذه "المصائب" -التي يمكن في مكان ما تعويضها- يتجلى بقطع الأشجار المعمرة التي تمسك التربة، وفتح بازار عشوائي، من شأنه أن يحوّل كارثة بيئية إلى فرصة للنهب المنظّم. فبدل أن تكون المنطقة المحروقة مختبرًا لاستعادة النظم البيئية، تتحول إلى مقلع مفتوح للأخشاب والتربة، ما يسرّع فقدان الغطاء النباتي ويقوّض أي محاولة لإعادة التشجير. هذا السلوك لا يهدد الغابة وحدها، بل يعجّل بانزلاق التربة نحو الوديان ويزيد من كلفة الكوارث على القرى القريبة، خصوصًا مع إقبال الشتاء. إن غياب الضوابط الواضحة والخطط المُلزِمة يعني عمليًا أنّ ما خسرناه بالنار نضيّعه اليوم بالمنشار والشاحنة، ليتحوّل خطر التصحر من احتمالٍ بعيد إلى واقعٍ ملموس خلال سنوات قليلة.
بدائل التدفئة عنصر مكمل لكنه ليس ذريعة للاستمرار بالمخالفة. فسياسات طوارئ قصيرة الأجل، قروض صغيرة لمواقد عالية الكفاءة، تشجيع وقود بديل من بقايا زراعية ضمن مواصفات السلامة، ومساعدات موجّهة في القرى الباردة، تخفّف الطلب على الحطب خلال موسم واحد. بالتوازي، تُنظم الدولة سوق الحطب المرخّص بمسارات تتبع وفحوص أنواع، بما يقلّص الضغط على الأحراج ويحفظ حق الأسر في التدفئة ضمن القانون.
المسؤولية لا تتوقف عند المنشار. أي سلسلة توريد غير موثقة يجب أن تُعامل كمخالفة قابلة للعقوبة، بما يشمل المقطِّعين وناقلِي الأخشاب ونقاط البيع والمشترين الكبار. الإحالات القضائية السريعة وإقفال المستودعات غير المرخصة تُغيّر الحسابات الاقتصادية للمخالفين. ومن دون هذه الحلقة التنفيذية، يبقى أثر بيانات الوزارة محدودًا، ويستمر نقل الحطب المقطوع من الغابة إلى السوق بلا عوائق.
 
جاد حكيم - "لبنان 24"

انضم إلى قناتنا الإخبارية على واتساب

تابع آخر الأخبار والمستجدات العاجلة مباشرة عبر قناتنا الإخبارية على واتساب. كن أول من يعرف الأحداث المهمة.

انضم الآن
شاركنا رأيك في التعليقات
تابعونا على وسائل التواصل
Twitter Youtube WhatsApp Google News
انضم الى اخبار القناة الثالثة والعشرون عبر قناة اليوتيوب ...
اضغط هنا